يوم عاصف في حياة المتنبي - علي الجارم*فرغ المتنبي من قصيدته قبل أن تظهر خيوط الصباح؛ فطوى أوراقه وألقى بنفسه على سريره؛ ولكن هيهات لمثله أن ينام..فلما شاع نور الشمس في الأفق؛ تناول نزرا من الطعام ثم ارتدى ملابسه وأمر مسعودا بإعداد جواده. ولما هم بالركوب رأى أبا الحسن بن سعيد في انتظاره فابتدره ابن سعيد:
-هل أتممت القصيدة؟- نعم أتممت قاصمة الظهر؛ وقارعة الأبد..- أرجو أن لا تقسو فيها على أعدائك يا أبا الطيب.- ليكن ما يكون..ولما بلغا قصر سيف الدولة نزل أبو الطيب عن جواده فتلقاه نجا في بشر وترحاب؛ وهمس في أذنه قائلا: اليوم يومك يا أبا الطيب.فإن أعداءك هنا جميعا؛ وقد جمعوا مكرهم؛ وألقوا حبالهم وعصيهم.فهز أبو الطيب كتفه في تيه وقال: إن هؤلاء لا يهزون شعرة من مفرقي:
أنا الذي بين الإله به الأقدار ***** والمرء حيثما جعلــــــــــه
جوهرة تفرح الشراف بـــــه ***** وغصة لا تسيغها السفلــهودخل المتنبي قاعة الرسل فرأى سيف الدولة في صدر الإيوان؛ وحوله الوزراء والفقهاء ورجال العلم والأدب وكان بالمجلس عدد عديد من أعداء المتنبي بينهم الزاهي
(1) والنامي
(2) وأبو الفرج السامري
(3).وكان على رأس هؤلاء أبو فراس وأبو العشائر
(4)؛ وقد أخذا ينظران ذات اليمين وذات الشمال في قلق واضطراب.
دخل المتنبي فسلم على الأمير مطأطئ الرأس حزينا ؛ ورد سيف الدولة تحيته مدلا عابسا وسكت الجميع وتحفر أعداء المتنبي للوثوب فشرع ينشد؛ حتى إذا بلغ قوله:
مالي أكتم حبا قد برى جسدي *** وتدعي حب سيف الدولة الأمم ؟صاح به أبو الفرج السامري: ويلك يا دعي كندة..لقد هجوت الأمير، لأنك تزعم أن الناس جميعا لا يحبونه إلا ادعاء، وأنك وحدك الذي يحبه صادقا وهل هذا إلا هجو صراح؟ فانصرف عنه أبو الطيب غير مكترث، واستمر في الإنشاد، فلما قال:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي **** فيك الخصام وانت الخصم والحكمقال أبو فراس: قد مسخت قول دعبل:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت *** عيني دموعا؛ وأنت الخصم والحكمفقال المتنبي وهو ينظر إلى الأمير ويشير إلى أبي فراس:
أعيذها نظرات منك صادقة **** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمفعلم أبو فراس أنه يعنيه؛ فقال: ومن أنت يا ابن عبدان
(5) حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه ؟ فواصل المتنبي إنشاده ولم يلق إليه أذنا إلى أن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ***** بأنني خير من تسعى به قــدم
أنا الذي نظر العمى إلى أدبي ***** وأسمعت كلماتي من به صممفزاد ذلك في غيظ أبي فراس وقال: قد سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد إذ يقول:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت **** دهرا وأظهرت إغرابا وإبداعــا
حتى فتحت بإعجاز خصصت بـــــــــه **** للعمي والصم أبصارا وأسماعاولما انتهى إلى قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ***والسيف والرمح والقرطاس والقلمصاح أبو فراس: وماذا أبقيت للأمير إذ وصفت نفسك بكل هذا؟ تمتدح الأمير وتتبجج بوصف نفسك بما تسرقه من كلام غيرك؟ أما سرقت هذا من الهيثم بن الأسود النخعي:
أنا ابن الفلا والطعن والضرب والسرى *** وجرد المذاكي والقنا والقواضبفقال المتنبي:
وما انتفاع أخ الدنيا بناظره **** إذا استوت عنده الأنوار والظلمقال أبو فراس: وهذا أيضا سرقته من قول العجلي:
إذا لم أميز بين نور وظلمة *** بعيني فالعينان زور وباطلومن قول محمد المكي:
إذا المرء لم يدرك بعينيه ما يرى **** فما الفرق بين العمي والبصراءوهنا ضجر سيف الدولة من كثرة مباهاة المتنبي بنفسه؛ وكثرة دعاويه؛ فمد يده إلى دواة كانت أمامه فضرب بها المتنبي ؛ فسال المداد على ثيابه؛ ولكن المتنبي وقف شامخ الرأس كأن لم يمسس بأذى؛ وشرع يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا *** فما لجرح إذا أرضاكم ألمفاهتز سيف الدولة للبيت؛ وحسن عنده موقعه؛ وقام مهرولا نحو المتنبي يعانقه؛ ويقبل رأسه؛ وأخذ يشده من ذراعه حتى أجلسه بجانبه. فلما أتم أبو الطيب القصيدة وهو جالس؛ أجازه بألف دينار؛ ثم أردفها بألف أخرى ؛ استعادة لمودته ؛ وإعلاء لمنزلته. لقد استطاع الشعر أن يهز كيان الأمير؛ فما كاد يرى من بالمجلس فعل سيف الدولة حتى أقبلوا على المتنبي يكيلون له المديح؛ ويخلعون عليه من الثناء حللا؛ ويشيدون بعبقريته؛ ويحمدون فيه الإباء والشمم والجرأة على ممدوحه؛ وأنه يرفع فنه إلى قمة دونها منازل الملوك؛ ويضع نفسه حيث يجب أن تكون. وقال أبو الحسين الرقي
(6) وهو يشد على يده:
حياك الله يا أبا الطيب..لقد كنت اليوم الفارس المعلم فلم تدع مصالا لصائل؛ ولقد كان نصرك مبينا مؤزرا فاحرص على هذا الإنتصار يا أبا محمد؛ فقد يكبو الجواد وقد قارب القصب
(7). فرد عليه المتنبي بكلمات ضاعت معانيها بين صيحات المعجبين أما أبو فراس وأبو العشائر وأنصارهما من آل حمدان فقد حبست الهزيمة ألسنتهم؛ وأكل الغيظ قلوبهم ؛ فتسللوا من المجلس وفي أعينهم لمحات الغضب والعزم على الإنتقام لما نالهم من احتقار المتنبي ونعريضه بهم في قصيدته.
وما كاد أبو الطيب -بعد خروجه من القصر- يصل إلى ظاهر المدينه؛ حتى أحاط به غلمان أبي العشائر ونفوسهم متعطشة إلى دمه؛ فرماه أحدهم بسهم وهو يقول: خذه وأنا غلام أبي العشائر ..فحاد عنه السهم ووكز أبو الطيب جواده وهو يقول:
ومنتسب عندي إلى من أحبه *** وللنبل حولي من يديه حفيف
فهيج من شوقي وما من مذلة*** حننت ولكن الكريم ألوف
وكل وداد لا يدوم على الأذى *** دوام ودادي للحسين ضعيف (8)
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا***فأفعاله اللائي مررن ألوفوبلغ المتنبي داره وقد نال منه الجهد؛ واضطرب منه العصب؛ فارتمى فوق سريره يلهث ويردد أنفاسه؛ وقد جالت في نفسه خواطر متباينة ؛ وهجمت عليه ظنون متناقضة.هؤلاء الغلمة الذين طلبوا دمه إنما هم عن قوس سادتهم رموا؛ وبأيديهم راشوا
(9) السهام.
نعم إنه انتصر عليهم عند سيف الدولة اليوم؛ ولكن هل يدوم هذا النصر؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الزاهي : علي بن إسحاق أبو القاسم مات في بغداد 452 ، و كان مقامه في حلب قليلا على مايبدو. ذكره صاحب اليتيمة
(2) النامي : أبو العباس أحمد بن محمد شاعر من كبار شعراء العصر ، وخواص شعراء سيف الدولة ، و كان عنده مثل المتنبي في المنزلة
(3) أبو الفرج السامري : من الأدباء الذين كانو في بلاط سيف الدولة .
(4) أبو العشائر : ابن عم سيف الدولة ، و أمير أنطاكية من قبله ، اتصل به المتنبي ومدحه قبل أن يتصل بسيف الدولة .
(5) والد المتنبي الحسين : كان سقاءً في الكوفة كما تقول بعض الروايات ، وكان يلقب بعبدان السقاء .
(6) علي بن عبدالملك الرقي القاضي بحلب . له شعر جيد ، ذكره الثعالبي في اليتيمة .
(7)القصب : كناية عن الفوز في السباق ، و كانو يضعون قصبة في نهاية الشوط ، فمن جاء سابقا اقتلعها و فاز على غيره .
(8) الحسين : هو الحسين بن علي ، أي أبو العشائر نفسه .
(9) راش السهم : ألصق به الريش ليكون أخف طيرانا عندالرمي
* من كتاب الشاعر الطموح