بوشويحةب الإدارة
عدد المساهمات : 1722 تاريخ التسجيل : 08/10/2010 العمر : 46 الموقع : بشار
| موضوع: العولمة والعالمية في ضوء سنن الله الكونية الإثنين 14 فبراير 2011 - 10:23 | |
|
العولمة والعالمية في ضوء سنن الله الكونية إبراهيم شوقار
إن مفهوم العولمة قد أثار كثيراً من الجدل والمراجعات النظرية والفكرية بين مختلف الأوساط المعنية، فشغل الناس بالجدل حول طبيعة وماهية العولمة والعالمية. إن مفاهيم العالمية (Global) والعولمة (Globalization) وغيرها، أساليب مختلفة للتعبير عن طبيعة التحول والتغير في بنية العلاقة التي تحكم البشرية في هذا العصر. ومعروف أن القرآن الكريم قد جاء بفكرة (العالمية) من قبل ضمن الرسالة الخاتمة، وباتت اليوم هي خيار البشرية الذي قطع شوطاً بعيداً في طريقه إلى واقع ملموس. ولذا فمن الصعب وضع تعريف حدي لمصطلح (العولمة)، لأنه يحمل عدداً من الدلالات المتداخلة في المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية والفكرية [أبو ربيع، إبراهيم، "العولمة: هل من رد إسلامي معاصر"، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 21، صيف 2000، ص10]. ولكن الذي لا شك فيه هو أن البشرية تتجه برغبة ملحة وخطوات متسارعة نحو تحقيق مزيد من التقارب، والمزيد من الوحي بالذات والإدراك بالآخر، مستعينة في ذلك بوسائل متعددة. بحيث يمكن القول إنه يستحيل، في ظل العولمة، تحقيق تلبية الرغبات الداعية إلى الانعزال والتقوقع على الذات. وهذا الأمر يُظهر من جانب آخر مدى أهمية المشاركة بفاعلية من أجل صياغة (العولمة) بصورة ينتفع بها أكبر قدر ممكن من البشرية عملياً. وقد أدرك مهاتير محمد [رئيس وزراء ماليزيا، يُعَدُّ من أهم الشخصيات التي نجحت في قيادة شعوبها إلى الانفراج على مدى واحد وعشرين سنة. وله أفكار مهمة حول العولمة عرضها في كتابه: العولمة والعلاقات الجديدة (Globalization and new relations)]، الذي تعرّضت بلاده لأزمة اقتصادية مباشرة باسم العولمة سبّبها تُجّار العملة (currency traders & the stock-market manipulators)، أهمية هذا الجانب، فقال: "إن العولمة، وعالماً بلا حدود قد أصبحا واقعاً سلفاً، فبات لا معنى للحدود في مجال نقل المعلومات والاتصالات والتجارة الإلكترونية. ولكن كون العولمة صارت حقيقة واقعة لا يمكن معارضتها لا يعني ذلك أن نبقى منعزلين متفرجين لمشهد تدميرنا من النهابين". لقد أُثيرت أفكار عديدة حول هذه الظاهرة (العالمية) التي تغشى البشرية في هذه الحقبة من التاريخ، بحثاً عن طرق تكييفها ووسائل تشكيلها. ولا شك في أن كلاً من تلك الأفكار كانت مدرك للحقيقة في جانب، ولكن الحلقة الجامعة لها جميعاً هي أنها تشكل نوعاً من تدافع فكري يعكس بصورة أوضح طبيعة العلاقات التي ستحكم البشرية في هذا العالم الجديد، على مقتضى سنن الله الكونية في حركة الأمم الحضارية. فالسؤال المقلق الذي تضمره الأمم وقادة الشعوب عن ظاهرة العولمة هو: كيف يمكن تحقيق دور أكبر لصياغة هذا النظام الجديد بالتفاعل معه والتأثير فيه؟ يتجلى التحدي الحقيقي للأمم في مدى قدرتها على اختيار أساليب ملائمة للإسهام في هذه الصياغة، وفي الوقت الملائم [تتوفر أساليب مختلفة للإسهام في تشكيل نظام العولمة، بما في ذلك القوة المادية كما هو بارز حتى الآن وفق الرؤية الأمريكية. ولكن التغيرات الحضارية للأمم تحكمه عوامل مختلفة، والنجاح فيه يتوقف على عناصر متباينة، لعل من أهمها اختيار الأسلوب الملائم وفي الوقت المناسب. ويبدو أن اليهودية العالمية قد أدركت دور هذين العنصرين في حركة العجلة التاريخية. فكيف يمكن أن يكون حال كيان الاستعمال على أرض فلسطين، لو لم يفلحوا في اصطناع أحداث سبتمبر في تلك الظروف الدقيقة التي عكستها أهم حدثين عالميين في ذلك الحين هما: سقوط أمريكا في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، والعزلة الدولية لأمريكا وإسرائيل التي تجلت في مؤتمر جنوب إفريقيا حول قضايا الاستعمار؟، بل كيف سيكون حال العالم الإسلامي لو لم يتمكن اليهود من إغراء صدام بغزو الكويت في تلك الظروف العصيبة؟]. وبناءً على هذا السؤال الجوهري ينبغي لأمة الإسلام أن تسأل نفسها: ـ كيف يتأتى الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للأمة في سياق العولمة وعالم المغريات؟ ـ وما التدابير الملائمة التي يجب على الأمة اتخاذها لتسهم في تشكيل العولمة بصورة تنتهي في نتائجها لصالح البشرية جمعاء؟ ـ وهل يمكن الحد من ثقة الإنسان المفرطة بنفسه نتيجة لامتلاكه بعض وسائل العلم التي مكنته من تسخير الطبيعة بأوسع الحدود؟ تَشكّل بتلك الأفكار المتدافعة حول طبيعة العولمة وآثارها، تصوران حتى الآن للكيفية التي ستكون عليها علاقة الأمم في نظام العولمة: حيث بادر التصور الأول بتقديم الأفكار التي مفادها أن العلاقة ستكون صداماً بين الحضارات وصراعاً دموياً بين الشعوب، تحكمه مبادئ القانون الطبيعي (الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح) (survival of the fittest). وأما التصور الآخر فيتخذ موقع الدفاع عن القيم وينادي بالحورا. مهما يكن من حال، فإن الأمر لا يعدو كونه تدافعاً بين البشرية يتجلى بصور مختلفة، وفق سنن الله الكونية في المجتمع وحركة الأمم الحضارية. وقبل النظر في الرؤية القرآنية بهذا المنظور فلنتعرض أولاً لهذين التصورين. 1 ـ التصور الأول: نظرية صدام الحضارات عندما قدَّم صمويل هانتنغتون (Samuel P. Huntington)، الذي يُعْتَقد على نطاق واسع أن النظام العالمي الراهن يتبنى أفكاره، فكرة صدام الحضارات (Clash of Civilizations)[Foreign Affairs, 1993, v72, n3, p22 (28)]، بوصفها نموذجاً لنوع العلاقات التي ستحكم البشرية بعد الحرب الباردة، أي نظام العولمة كما يراها، أثار ذلك ردود فعل على نطاق واسع، ولا سيما بين المفكرين في الدول النامية التي يشكل المسلمون سوادها الأعظم. والفكرة العامة لهذا النموذج تقوم على افتراضات يعرضها هانتنغتون بالطريقة الآتية: ـ المصدر الأساس للنزاع في هذا العالم الجديد لن يكون إيديولوجياً أو اقتصادياً من حيث المبدأ. ـ التقسيمات الكبرى بين البشر والمصدر الرئيس للنزاع سوف يكون ثقافياً، وسوف يسيطر صدام الحضارات على شؤون السياسة الدولية. ـ ستظل الدولة القطرية أقوى عنصر في توجيه الشؤون الدولية، ولكن النزعات الأساسية ستكون بين الأمم والجماعات من مختلف الحضارات، وخطوط التماس بين الحضارات هي التي تشعل تلك النزاعات باستمرار. ـ في المستقبل المنظور لن تكون ثمة حضارة عالمية منفردة، ولكن بدلاً من ذلك عالم من حضارات متعددة، ينبغي لكل واحدة منها أن تتعلم كيف تعيش مع الآخرين. هذا هو ملخص الأفكار التي قدَّمها هانتنغتون مثيراً بها حفيظة المفكرين والسياسيين، محدثةً جدلاً واسعاً ومناقشات حادَّة على نطاق العالم. والأهمية التي حظيت بها نظرية (صدام الحضارات) وخطورتها لا تنبعان من كونها تحتوي على حقائق علمية مجردة، بل تكمن خطورتها في الإرادة القوية التي تقف خلفها داعمة لها، ممثلة في قوى الاستكبار العالمي. وذلك إن سنن الله تعالى في حقل المجتمع البشري، على خلاف الأمر في الحقل الطبيعي، تتسم بالمرونة بالقدر الذي تسمح بعلو الأفكار المسنودة بالعزيمة، المدعّمة بالقوة المادية والمعنوية، لحين من الزمن ولو كان باطلاً صرفاً أو حقاً مًغلّفاً بالباطل،قبل أن تصاب بالانهيار. والأمثلة كثيرة في تاريخ الأمم، لعل أقربها انهيار التجربة السوفيتية بعد حياة تربو على سبعين عاماً ظلت قائمة على الباطل، كما اعترف به أهله قبل غيرهم. نظرية (صدام الحضارات) تحت المجهر إذا تم تجاوز ذلك الأسلوب الحاد الذي اتسم بطابع (فعل ورد فعل)، المتأرجح بين القبول المطلق والرد الكامل، فإن ثمّة منهجاً وسطاً يمكن التعامل من خلاله مع أفكار هانتنغتون بطريقة أمثل وأفيد، ألا وهو منهج إثبات الحق وكشف الباطل ودحضه، وهو منهج القرآن. أهم ما تميز به فكر هانتنغتون بصورة عامة هو وضوح الرؤية، والشجاعة في عرض الأفكار، الأمر الذي دفعه إلى الاعتراف الصريح بأن المنظمات الدولية، وأجهزة (الأمم المتحدة)، إنما هي أدوات في يد قوى الاستكبار، يتم بها استغلال الشعوب المستضعفة خير استغلال. ولا سيما في إملاء وتمضية القرارات السياسية من خلال مجلس الأمن، والقرارات الاقتصادية من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكل ما يترتب على ذلك من إملاء قيم ثقافية ودينية [قال بهذا الخصوص: “The West in Effect is using international institutions, military power and economic resources to run the world that will maintain Western predominance, protect Western interests and promote Western political and economic values”]. ودفعته شجاعته إلى الاعتراف الصريح بازدواج المعايير في التعامل الغربي مع الدول في النظام الدولي الساري، بل توقع هانتنغتون أن يكون التعامل بالمعايير المزدوجة هو سمة نظام العولمة الجديد. وهو عكس ما تشير إليه السنن الإلهية من أن المعايير المزدوجة من أهم أسباب انهيار الحضارات. فقد أكد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المجتمع الذي لا يطبق فيه القانون إلا على الضعفاء، مجتمع عاقبة أمره الانهيار: (إنما أهلك من قبلكم إنه إن سرق فيهم الشريف تركوه وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)! أما من حيث التفصيل فإنه يمكن مناقشة افتراضات هانتنغتون في الجوانب الآتية: أولاً: دور الحس الديني والثقافي (إدراك الذات) (self-consciousness) في الصدام: يبني هانتنغتون فرضيته الأساسية على ملاحظة ارتفاع درجة (الإحساس بالذات) في الأمم على نطاق العالم، ضد هيمنة الثقافة الغربية، ويجعل من ذلك أحد العوامل الجوهرية في صدام الحضارات. ولكن الذي يراه المحللون هو عكس ذلك، أي أن العودة إلى الذات ما هي إلا شكلاً من الممانعة الثقافية وحركة احتجاج ورفض ناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح حضارة عالمية مستوعبة للتنوع الثقافي العالمي [وذلك بسبب تحولها إلى إيديولوجية مطابقة لمشروع (الرأسمالية) القائم على الربح والاستهلاك والسيطرة. وجيه كوثراني: (صدام حضارات أم إدارة أزمات)، مقال ضمن كتاب: صدام الحضارات (بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية، ط1، 1995) ص99]. ثم إن استقراء الوقائع التاريخية يثبت أن الحس الديني، وإن كان له دور في إحداث تحولات اجتماعية واقتصادية.. إلخ، لم يكن سبباً قط لإشعال الحروب بين الأمم إلا في إطار من مصالح الدول، أو تعصب ديني لا مبرر له. فالصدامات والحروب تبقى في أبعادها العميقة نزاعات تتحكم فيها مصالح الدول ومصادر الثروة وغيرها من العناصر، وليس العوامل الثقافية والدينية، كما يحاول هانتنغتون أن يضلل بها الرأي العام العالمي. ولذلك ليس صحيحاً أن ثقافة أو حضارة ما تحمل في داخلها عنفاً أو عدوانية، من حيث كونها ثقافة أو حضارة لجماعة من البشر، إلا إذا تلبست صفة دولة لها سياسات توسعية وسيطرة، ، أو بالمقابل تكون في إطار حماية ودفاع عن الذات في وجه السيطرة والاستتباع [كوثراني، المصدر السابق]، كما هو الحال في العالم الإسلامي المعاصر، والشعوب المستضعفة. من هذا الوجه يثبت فشل هانتنغتون في محاولته الجادة لإبراز الغرب جملة، بما فيها أمريكا، في كتلة واحدة ضد الآخر حضارياً. لأن دول الغرب وإن كان لها تاريخ مشترك في الثورة على الكنيسة والقيم الدينية، فهي لا تجتمع إلا على (المصلحة) وتفترق عليها، ولذلك لم تكفّ عن الحرب فيما بينها عبر تاريخها، إلا عندما شعرت بالتكافؤ بعد حروب عالمية دامية، وصفها المؤرخ أرنولد توينبي بقوله: "إن فن الحرب هو الذي أحرز التقدم على حساب كل فنون السلام". واليوم يراد للشعوب المستضعفة، التي باتت حقلاً للتجار بفنون الحرب، أن تظل في صدام، منشغلة عن التطور والتقدم! ثانياً: مصير الدولة القطرية في ظل العولمة: يبدو من ظاهر حركة (العولمة) أن أكثر قضايا الشعوب في طريقها إلى أخذ الطابع الدولي، وذلك بناء على وعي الشعوب المتزايد عن الأحداث حول العالم بفضل ثورة الاتصالات. وسيكون ذلك قطعاً على حساب السلطات المحلية. ونتيجة لذلك سيقل دور الدولة القطرية في تقرير مصير شعوبها على انفراد في الداخل، فضلاً عن الخارج. وعندما يفترض هانتنغتون أن الدولة القطرية ستبقى دون مساس، وسيظل لها دور كبير في تحديد العلاقات في الشؤون الدولية، فإن هذه الفرضية وإن كانت مناقضة لما تتجه إليه الدول الغربية، فإنها صادقة إلى حد ما في حق الشعوب المستضعفة لسببين جوهريين: أحدهما أن هذا النظام جاء موافقاً لداعية الهوى في الإنسان، حيث يميل الإنسان بطبعه إلى الاستحواذ على الانفراد والاستئثار، إلا أن تتغلب حكمة العقل. والسبب الثاني، وهو الأهم، أن نظام الدولة القطرية لا يتعارض مع هيمنة قوى الاستكبار، بل خادم لها، سواء كان من حيث ضعف الكيانات الصغيرة المتعددة عن فرض إرادتها في المحافل الدولية، أو من حيث عجزها عن حماية ذاتها ومصالحها، كما هو ثابت في الواقع. لذلك ستشدد هذه القوى على ضرورة بقاء هذا النظام، بل ستسعى إلى المزيد من التمزيق والتفتيت لأرض الإسلام لإيجاد كيانات صغيرة مستقلة! ثالثاً: لعل أصدق ما صرح به هانتنغتون هو ما ختم به مقالته من أن "في المستقبل المنظور لن تكون هناك حضارة عالمية منفردة، ولكن عالم من حضارات متعددة، ينبغي لكل واحد منها أن تتعلم كيف تعيش مع الآخرين". هذا الكلام حق في ذاته وإن كان مغلفاً بالباطل. لأن هناك تعارض يبدو جلياً بين فكرة صدام الحضارات وهذه النتيجة التي انتهى إليها هانتنغتون. وهو أن الحضارات المصدامة لا يمكن أن تعيش بسلام ووئام، إلا إذا كان التعايش مع الآخر بمفهوم (فرض الذات). وذلك يعني القدرة على التكيّف والتحايل والتعديل وفق ظروف البيئة المحيطة (العولمة)، والكفاح من أجل البقاء حتى تفرض نفسك على الآخر لتكون جديراً بالحياة واستمرار الوجود، بصرف النظر عن الجوانب الإنسانية والأخلاقية، وعندئذ تصبح جديراً بالاحترام والتقدير والتعامل بالندية. وهذا المفهوم للتعايش إنما هو صدى وانعكاس للنظرية (الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح) (survival of the fittest) [الذي صاغ هذه النظرية هو تشارلز روبرت دارون (Charles Robert Darwin 1809-1882) صاحب نظرية أصل الأنواع. ومضمون نظرية الصراع هو أن الكائنات الحية يجب أن تتصارع مع بعضها البعض لكي تنتج ضرورات الحياة، ويكون البقاء للأصلح]، فهي وأن كانت صادقة في حقل الطبيعيات، وصالحة لدفع عجلة التاريخ بإعطائها قوتها اللازمة للحركة في الحقل الإنساني، فلابد من ضبطها بالسنن الشرعية التي تخاطب إرادة الإنسان. لأن تجردها من ضوابط يتنافى في نتائجها مع الغرض من تلك الحركة الحضارية نفسها. وما أصاب دول جنوب شرق آسيا من تدمير للشعوب وأضرار بالغة في الاقتصاد، باتباع هذا القانون باسم نظام السوق (the market system)، خير شاهد على ذلك [لعل الضمير العالمي قد شعر، بعد تلك الأحداث المؤسفة التي تسببت في خراب اقتصاديات إقليم بأكمله، بضرورة وضع نوع من الضوابط على قاعدة (السوق ينظم نفسه)، على الأقل في مجال تجارة العملة. وأكثر من نادى بوضع هذه الضوابط هو د. مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا (راجع على سبيل المثال كتابه: العولمة والعلاقات الجديدة)]. فملخص الكلام في فكر هانتنغتون هو: أنها محاولة لتقنين وإصباغ الشرعية على هيمنة القوى الغربية واستمرار سيطرتها باسم المجتمع الدولي بادعاء صدام في جو من عدم التكافؤ. ولعل هذا الفكر نفسه سيشكل تحدياً كافياً للشعوب، فيدفعها إلى العمل لإيجاد البدائل. 2 – التصور الثاني: نموذج حول الحوارات لما تبين لأكثر المحللين أن هانتنغتون إنما يفصّل أطر (العولمة) لمصلحة أطراف بعينها، مدركين حقيقة مقترحاته المقدمة في صيغة دعوة إلى التعايش بين الحضارات بأنها نوع من سياسة (إدارة الأزمات) [كوثراني، صدام الحضارات، مصدر سابق، ص101]، وتيقنوا أن مقولاته ستنتهي حتماً إلى المصير نفسه الذي انتهت إليه مقولات فوكوياما في (نهاية التاريخ) فتجاوزها التاريخ، لما أدركوا كل ذلك رفعوا من جانبهم شعار: "حوار لا صدام" (Dialogue, not Clash of Civilizations)[Spring, Ursula Oswald, Dialogue not Clash of Civilizations: CRIM/UNAM, Mexico, 6/8/2000]. والحوار مبدأ قرآني أصيل في التعامل مع الغير على المستويات كافة لبثّ الدعوة، إلى جانب المجاهدة لحمايتها ودرء الفتنة ليكون الدين لله. فهما منهجان متكاملان لا يغني أحدهما عن الآخر، ولكن لكل ظرف يلائمه دون الآخر، وقد يجتمعان، ولكن الحوار هو الأصل: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44]. شروط وآليات الحوار ومجالاته ويحدد القرآن للحوار أطراً وحدوداً مختلفة، وقضايا ووسائل، ثم يضع شروطاً في سبيل إفضائه إلى أفضل النتائج. يقوم أساس الحوار في القرآن على الأصل الواحد للبشرية، أي علاقة المساواة والتكافؤ العام للبشرية فيما بينها، من حيث المبدأ، أمام خالقها سبحانه. وهذا هو أوسع إطار للحوار: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. إذاً شرط الحوار هو الإنسانية فقط، بصرف النظر عن كل المواقف: العقدية، والثقافية، والحربية وغيرها، فلا استثناء لأحد أن يجلس مع المسلم على طاولة الحوار. أما موضوعات وقضايا الحوار فشاملة لكل مناحي الحياة: الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والفنية والرياضية، وغيرها [الترابي، عبد الله حسن، "أطروحات الحركة الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب"، مقال ضمن كتاب: صدام الحضارات، مصدر سابق ص123]. ومن أهم آليات الحوار الأرضية المشتركة بين الأطراف، فلا معنى للحوار إذا لم يكن ثمة أمراً مشتركاً في القضايا وبعض مستوى الفكر، مع وجود مساحات للتباين والاختلاف فيُعمل على التقريب بينها عبر الحوار: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف: 94]. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى هم أحق الناس بالحوار من هذا الوجه، نظراً لتوفر أرضية واسعة مشتركة مع المسلمين، لذلك يضع القرآن شروطاً خاصة لصالحهم: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت: 46]. والغريب أن هانتنغتون في أطروحته يفترض أن الحضارة الإسلامية ستتوافق مع الحضارة الكنفوشية وتقفان في مواجهة الحضارة الغربية، في إطار من (الغرب ضد الآخر): والقرآن يقول: لا يكون ذلك إلا إذا كانت الحضارة الغربية نفسها حضارة ظالمة إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ. لا ينحصر مجال الحوار في مستوى الأمم والجماعات، بل يخصص القرآن مساحة أخرى للجدل والحوار بين أخوة الإسلام، طلباً للحق وتوحيداً للموافق، في إطار المجتمع الواحد ممن لهم توجهات فكرية مختلفة، أو مواقف سياسية متباينة. فقد وقع من ذلك شيء كثير بين الصحابة رضوان الله عليهم، حتى في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما هو الحال في شأن شروط صلح الحديبية. وهذه خولة بنت ثعلبة تحاور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن قضية اجتماعية: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة: 233] [شوقار، إبراهيم: منهج القرآن في تقرير حرية الرأي ودوره في تحقيق الوحدة الفكرية بين المسلمين (دمشق: دار الفكر، ط1، 2002) ص49]. وهناك شروط للحوار يضعها القرآن من أجل التوصل إلى نتائج مفيدة. والشرط العام لذلك هو العلم، أي المعرفة الدقيقة بالآخر المحاور وبموضوع الحوار: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ [الحج: 8]. فإذا وضعنا هذا الشرط موضع التطبيق في حوار المسلمين مع الغرب في هذا العصر، ينبغي للمسلمين أن يكونوا على علم تام بطبيعة الإنسان الغربي: خلفيته التاريخية ومنطلقاته الفكرية، وطموحاته والغايات التي يسعى إلى تحقيقها، والأهداف التي يقاتل من أجلها ونوع الأدوات التي يستعين بها.. إلخ، وبصورة عامة معرفة اجتماعية – أنثروبولوجية، إلى جانب الإلمام التام بموضوع الحوار نفسه في أبعاده القريبة ونتائجه البعيدة. وشرط آخر يضعه القرآن للدخول في حوار، أو الاستمرار فيه، هو أن لا يكون الحوار لمجرد الجدل، أو لدحض الحق وإبطاله: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف: 56]. فقد قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية شروطاً يبدو في ظاهرها الإضرار بموقف المسلمين، حتى أثارت حفيظة بعض الصحابة (رضوان الله عليهم)، ولكن كانت نتائجها في صالح المسلمين على المدى الطويل. وفي الجملة إنه لا يمكن إثارة معركة التنمية والنمو والتطور ما لم نكتشف الأرضية التي نقف عليها، ومن أين نُضرب وكيف ولماذا؟، ولا يمكن أن نكتشف ذلك إلا إذا اكتشفنا أنفسنا أولاً ومن يضربنا ثانياً، وذاك اكتشاف لا يتأتى خارج الكتاب الكوني، أو بمعزل عنه وهو القرآن الكريم [حاج حمد، أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية (بيروت: دار ابن حزم، ط2، 1996) 2/13]. وفي مقابل هذا التصور القرآني المتكامل عن الحوار تقف اليهودية العالمية وراء قوى الاستكبار العالمي وتدفعها إلى رفض إجراء أي حوار جدي مع المسلمين، بل مع كل الشعوب المستضعفة، حول القيم الثقافية. وذلك بدعوى أن قيم الحضارة الغربية هي المعيار، ثم السعي إلى فرضها على الشعوب، بحجة أنها قيم عالمية وأن تبنيها سيحل المشكلات الاقتصادية والاجتامعية!. المسلمون بين الحوار والمجاهدة ولأن أمر الحوار أو المجاهدة يتعلق بالسنن الكونية المنوط بها التغيير في المجتمع البشري، فإن عنصر الزمن فيه يؤدي دوراً محورياً. بمعنى أن لدقة اختيار المنهج المناسب لظرف بعينه، استقلالاً أو جمعاً بين المنهجين (ترغيباً وترهيباً)، دور كبير في نجاح الخطط المطلوبة في التدافع الحضاري بين الأمم. وفي الواقع هذا هو التحدي السافر الذي يواجه المسلمين في كل عصر، وبه يظهر التباين بين التدافع الحضاري على مقتضى السنن الكونية والنظرة الإنسانية. كان المسلمون يوم الأحزاب أكثر ميلاً إلى الحوار والصلح، كما كانوا يوم بدر أكثر ميلاً بقلوبهم إلى الغنائم (عرض الدنيا). ولا شك أن في ذلك مصلحة ظاهرية، ولكن الخيار الإلهي الذي جاء وفق سنن التاريخ كان مخالفاً: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال: 5-7]. وعلى النقيض من ذلك كان يوم حنين، إذ لَمّا شعر المسلمون بكثرة عددهم، بل صرحوا بها وتباهوا، جاءت النتائج على خلاف ما تقضي به الأسباب المادية، وقد عكس الله تعالى ذلك بقوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25]. ولبيان أهمية عنصر الزمن والتوقيت في فاعلية المنهج، لننظر إلى واقعنا المعاصر ونفترض أن قرار خطف الطائرات والارتطام بها على الأبراج التجارية لم يتخذ في تلك الظروف التي ظهر فيها بصورة جلية بوادر الانحياز الدولي ضد الهيمنة الأمريكية والطغيان الإسرائيلي، والتي تجلت من خلال الخروج الأمريكي من لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وكذلك العزل التام لأمريكا وإسرائيل في مؤتمر جنوب إفريقيا حول قضايا الاستعمار، فما النتائج التي سوف تسفر عنها تلك الأحداث لو تقدم ذاك القرار أو تأخر أو لم يتخذ بالمرة؟ ثم افترض مرة أخرى أن قرار غزو الكويت، بتخطيط من اليهود، لم يصادف تلك الظروف الدولية الحرجة بانهيار الكتلة الشيوعية، فكيف يكون حال الأمة الإسلامية والعربية اليوم؟ إذاً اليهود هم الذين أدركوا أهمية عنصر الزمن في التدافع الحضاري، وغدوا يفتعلون الأحداث بدقة لصالحهم، مهما كانت مروعة في نتائجها، كتدمير تلك الأبراج بمن فيها في تلك الظروف الدقيقة التي كادت أن تشكّل نقطة تحول ضد الهيمنة الأمريكية بسيطرة اليهود. وقد عبر هنري كسنجر عن هذه الحقيقة بكل وضوح: "إن أوروبا متحدة يتوقع أن تصر على خصوصية الرؤية الأوروبيَّة لشؤون العالم، وهي طريقة أخرى للقول بأنها سوف تتحدى الهيمنة الأمريكية على السياسة الأطلسية. وقد يكون هذا ثمناً مناسباً يدفع من أجل الوحدة الأوربية، لكن السياسة الأمريكية قد عانت من عدم الرغبة في الاعتراف بأن ثمناً ما يجب أن يدفع" [Henry Kissinger, The White house Years, Boston: Little brown and Co (1979), p. 82. وقارن إبراهيم أبو ربيع، العولمة: هل من رد إسلامي معاصر، مصدر سابق صلَّى الله عليهِ وسلَّم24، (الهامش)]. وقد دُفع الثمن فعلاً الآن بافتعال أحداث سبتمبر وما لحقها من أحداث! فإذا تم تفسير كل هذه الأحداث والوقائع التاريخية، بما فيها ظاهرة (العولمة) ودور اليهود فيها، في ظل سنن الله الكونية، لا يمكن فهمها إلا في إطار الإرهاصات التي تعقب الظهور الكلي للدين الحق عالمياً. وذلك لأن الله تعالى عندما يريد لسنة إلهية أن تأخذ طريقها إلى حيز الوجود، فإنه تعالى يهيئ لها أسباباً كثيرة ومختلفة، بما في ذلك متناقضات نتائجها ظاهرياً [إن أفضل مثال لذلك هو خرق السفينة من صاحب موسى عليهما السلام لم يؤد إلى غرقها، بل بالعكس إلى نجاتها]. وقد قرر القرآن هذه الحقيقة وبيّنها بصورة عملية من خلال واقعة بدر والأحزاب وحنين، كما بينها نظرياً في مواقع مختلفة من السور، منها قصة انتصار طالوت على جالوت على الرغم من أن كل الشروط الموضوعية القائمة على الأسباب تشهد بعكس ذلك [معلوم مما ذكره القرآن أن طالوت لم تكن بجانبه أية أسباب للنصر، حيث تولى مهام الملك في ظروف حرجة، فلم يقف بجانبه إلا قلة من بني إسرائيل لأنه لم يكن من ورثة الملك كما لم يكن ذا مال، ثم نقصت القلة التي معه من الجنود وهو في الطريق إلى المعركة بسبب الشرب من النهر! فكل هذه الشواهد كانت تدل على عكس النتائج التي تحققت، أي الانتصار على جالوت. راجع تحليلاً علمياً لهذه القصة: حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، 1/38-41]. والشواهد كثيرة في القرآن، قاعدتها العامة قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]. إذاً لقد جاءت (العالمية) في هذه المرة، مفروضة من قبل الغرب، وفق مفاهيم معينة لأغراض تخصهم بصيغة (العولمة)، على كُره من المسلمين كما جاءت واقعة بدر، التي هي نقطة تحول في تاريخ الإسلام، على كره منهم. وأما ما يصاحب هذه العالمية من إجراءات تعسفية (أي العولمة)، وإن كان فيها إذلالاً للمسلم، وامتهاناً لعزة الإسلام، فليس ذلك مدعاة لرفض الفكرة نفسها التي حملها القرآن من قبل ووضعها في إطار الرسالة الخاتمة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28]. ونخلص من كل ذلك إلى السؤال الآتي: ما الخيار الأفضل للأمة الإسلامية والعربية للتعامل مع (العولمة)، في هذه الظروف، من أجل توجيهها نحو الظهور الكلي للرسالة العالمية التي جاءت بالدين الحق؟، هل هو المواجهة والصدام، أم الاستسلام والدعوة إلى الحوار؟ مرة أخرى هذا هو التحدي الحقيقي، والحكمة ضالة المؤمن، ويبدو أن الخيار الإلهي هنا أيضاً على خلاف ما تميل إليه قلوب المسلمين. ولكن لَمّا كانت سنة الله الجارية تقضي بأن التغيير الإلهي يأتي على وفق التغيير البشري، فإنه يجب على المسلمين أن يدفعوا ثمناً ما. مبادئ قرآنية عامة للتعامل مع العولمة إن كل عمل يقوم به المسلمون تجاه العالمية، أو أي منهج يختارونه للتعامل مع العولمة وتفعيلها يجب أن يكون وفق المبادئ الآتية: أولاً: العمل على إبراز الأمة في صورة النموذج الأعلى للمجتمعات البشرية: فالأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، وهي خير أمة أخرجت للناس كما وصفها القرآن. وذلك يعني الانفتاح على مجالات الحياة كافةً، لحمل رسالة الإنسانية الحضارية الكبرى. وإن كان قد أقصيت الأمة عن أداء هذا الدور الطليعي لظروف تاريخية، فإن العودة إليه مرهونة بالوعي الكامل لهذا الدور نفسه. أي أن يجعل ما هو موجود في الإسلام من محاسن ومزايا بالقوة، موجودة فيه بالفعل، لأنه من غير الملائم أن يتم تبليغ الإسلام عن طريق التبليغ فحسب، كما يفعل النصارى [المودودي، أبو الأعلى، نحن والحضارة الغربية، الدار السعودية للنشر (جدة 1987) ص340-341]. ثانياً: المبدئية في التعامل: العمل بالمبادئ من متطلبات عقيدة التوحيد التي تستوعب حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً ودولة. ويسري نطاق المبدئية على المستويين الداخلي والخارجي، لهذا فإن الأمة الإسلامية تقترب من الآخرين بمقدار قربهم من مبادئها، وتبتعد عنهم بالمقياس نفسه، فعلى ضوء المبدأ تتحدد نوعية العلاقات. ويقوم أساس المبدأ على عقيدة الأمة مدعومة بالدراسات العميقة والخطط المدروسة. فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ [محمد: 35]. ثالثاً: نفي السبيل على المؤمنين: يستند هذا المبدأ إلى نصوص عديدة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141]، وبموجبه يصبح أي تصرف أو معاهدة أو عقد يؤدي إلى إذلال المسلمين أفراداً وجماعات، أو يؤدي إلى تفوق الكافرين عليهم، باطلاً وملغياً من أساسه في حق الأمة. وإذا كان هذا وعداً قاطعاً من جانب الله، فيجب على المسلمين السعي لسد جانبهم، لأن فعل الله يأتي على وفق فعلهم. وهذا مبدأ توازيه قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وتظهر أهميته في هذا العصر الذي يتعرض فيه المسلمون للابتلاء. رابعاً: العدالة في التعامل: العدل من المنظور القرآني هو الأساس الذي تقوم عليه حياة الخلق والمخلوقات جميعها، بما في ذلك السماوات والأرض: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام: 73]، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى [الروم: 8]. إذاً ينبغي للإنسان أن يتبع هذا المبدأ طوعاً من تلقاء نفسه، والمسلمون أحرى الناس بذلك، سواء كان التعامل مع الأفراد أو الكيانات، داخلياً أو خارجياً. والآيات القرآنية التي تأمر بالعدل تكاد تشمل سائر الجوانب، حتى مع الأعداء: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]. ويدخل ضمن مبدأ التعامل بالعدل مبدأ آخر هو التعامل بالمثل: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]، وإن كان العفو والصفح هما الأولى عند المقدرة. خامساً: احترام العهود والعقود والاتفاقات الدولية: وهذا الأصل من أهم الأصول التي تعتمدها سياسة الأمة في تعاملها مع الآخر، فإنه يستمد من الواقعية التي تتسم بها النظرة الإسلامية من جهة، واحترام مقتضيات التعامل مع الآخر من جهة أخرى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34]. فالعهد أو العقد المبرم إذا وقع مستوفياً لشروطه كان أمراً ملزماً على المستويات كافةً، ما لم ينقضه الطرف الآخر. لذلك كان عهود المسلمين وعقودهم مع الغير ينبغي أن تكون مسبوقة بالتفكير الجدي والتخطيط الجيد. وأول عهد قطعه المسلم على نفسه هو عهد الإيمان الذي قطعه مع الله تعالى، فيجب عليه الوفاء بمقتضيات نطقه بالشهادتين أولاً. هذه هي أهم المبادئ التي تحكم سير الأمة وهي في طريقها إلى التعامل مع العولمة بصورة تحقق أفضل النتائج للبشرية [راجع مزيداً من التفصيل لهذه المبادئ: الشيخ محمد علي التسخيري: (نظرة في العلاقات الدولية في ضوء القرآن)، ضمن مقالات المؤتمر الثاني للفكر الإسلامي بطهران 1986م ص275].
عدل سابقا من قبل بوشويحةب في الإثنين 14 فبراير 2011 - 10:30 عدل 1 مرات | |
|
بوشويحةب الإدارة
عدد المساهمات : 1722 تاريخ التسجيل : 08/10/2010 العمر : 46 الموقع : بشار
| موضوع: رد: العولمة والعالمية في ضوء سنن الله الكونية الإثنين 14 فبراير 2011 - 10:27 | |
| اقرأ بقية المقال :
3 - العولمة وسنة التدافع في القرآن الكريم لا يمكن فهم ظاهرة (العولمة) من منظور قرآني إلا في إطار دعوة عالمية، حيث يتساوى جميع البشر في الإنسانية، وتتكافأ دماؤهم وأعراضهم وذممهم، إلا من سَبْقٍ بالعمل وفق سنن الشرع، أو من تدافع وفق السنن الكونية ليكون الدين لله. وهذه الصفة لا تتوفر في سائر النظم إلا في الإسلام الذي يستمد صفة (العالمية) من الأسس الآتية: أولاً: كونه رسالة وخطاباً لمطلق الإنسان، بصرف النظر عن العرق واللون والمكانة الاجتماعية والجاه ..إلخ، وكونه أطروحة نهائية لمسيرة التكامل الإنساني: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]. ثانياً: كونه خطاباً للفطرة الإنسانية السوية، سواء كان في تقرير العقائد الموافقة للفطرة والعقل السليم، أو في تشريع الشرائع الدافعة الحرج والعنت والعسر، أو في وضع نظم الحياة الملائمة للطبيعة الإنسانية: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]. ثالثاً: الشهادة القرآنية للإسلام بهذه الصفة (العالمية)، حيث وردت في آيات متعددة أن الدعوة الإسلامية عالمي النطاق، كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28]. وقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]. رابعاً: وحدة المعبود (الخالق تعالى)، ووحدة القبلة ووحدة الشعائر التعبدية، حيث يجعل الإسلام الأرض كلها تطوف حول الكعبة محور التوحيد، كما يطوف الكون حول العرش محور الخلق الإلهي عامة: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 27-29]. البشرية بين الوحدة والتدافع إذا كان القرآن الكريم يدعو إلى تحقيق نوع من الوحدة بين البشر عن طريق الدعوة والتبشير والإنذار على مستوى العالم، فإن ذلك هو مقتضى السنن الشرعية التي بها ينال الإنسان حظه في الدارين. أما الأصل في العلاقات الإنسانية، بل الخلائق عامة وفق سنن الله الكونية فهو التدافع: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118-119]. والتدافع بالمفهوم القرآني، وإن كان ضرورياً في الحقل الإنساني لتحريك عجلة التاريخ، فإنه يباين مطلق الصراع والصدام في طبيعته وأغراضه وأهدافه. وذلك من حيث كونه نوعاً من التنافس المنضبط بسنن الشرع والأخلاق الفطرية الطبيعية، وهو العنصر المفقود في العولمة حتى الآن [يحاول هانتنغتون التخفيف من حدة لغته في (صدام الحضارات) بقوله: الاختلاف لا يعني التنازع، والتنازع لا يعني العنف بالضرورة Differences do not necessarily mean conflict, and conflict does not necessarily mean. ولكن من حيث الواقع كل ذلك مخالف لفلسفة الحضارة التي ينطلق منها]. فالتدافع سنة إلهية كونية قامت عليها حكمة الوجود الثنائي في الخلائق [قال الإمام الغزالي في كتاب (إحياء علوم الدين مج3/44): (الموجودات كلها متقابلة مزدوجة، إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له، بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها)، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49] ]، فهو أمر لابد منه، ولذلك ينبغي التفاعل معه. وله مصادر وأسباب، كما له صور ومستويات يتجلى فيها ويبرز من خلالها، وله غايات وأهداف. أسباب التدافع ومصادره يقوم التدافع أساساً على حكمة الله في اختلاف الناس كما تشير إليه الآية السابقة وهي قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود: 118]، حيث يبيّن القرآن أن الاختلاف بين البشر، وهو أهم عنصر به يتحقق الغرض من وجود الإنسان، ليس مناقضاً لطبيعته الإنسانية ولكنه معارض لوجوده في المجتمع مع ضرورته، لأنه يفضي إلى التنازع والتدافع، فيقتضي تهذيبه بالضوابط. ويقرر القرآن أيضاً أن مصدر التدافع هو الإنسان نفسه التي ألهمها الله فجورها وتقواها. أي أنه مصدر داخلي وليس خارجياً، لذلك يربط القرآن تدافع المجتمع بتدافع النفس ويجعل من ذلك سنة مطردة، فمتى تغيّر ما في النفس غيّر الله تعالى ما في المجتمع من حال قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. وهذا يفيد أن الإنسان نفسه هو المحرك لهذه السنة، ويكون فعل الله تعالى مطرداً مع فعله، الأمر الذي يقطع الحجة على أمة الإسلام في انحطاطها، ويدفعها إلى المشاركة الفاعلة في صياغة العولمة وتشكيلها وتفسيرها، لا أن تتخلف بحجة أن ذلك هو قضاء الله وقدره. صور التدافع ومستوياته صور التدافع كثيرة لا يكاد يحصيها العد، ولكن تتجلى سنة التدافع الإنساني في ثلاثة مستوياته رئيسة: [قارن هذه المستويات، الدجاني، أحمد صدقي، في مقالته: (موقف الإسلام من الصراع) حيث رأى أن العلماء يميزون بين ثلاثة مستويات من الصراع، انطلاقاً من طبيعة أطرافه: فهناك صراع بسيط بين الأفراد يمارسونه مباشرة، وصراع بين المنظمات مثل الدولة مع النقابات، وصراع جماعات لكل منها انتماؤها. مجلة المسلم المعاصر، العدد 81/1996. وراجع: مقالة عماد الدين خليل: (الصراع ودوره في الحركة الحضارية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي 1974م] المستوى الأول: التدافع في إطار النفس الإنسانية، وهذا هو الأساس والمصدر، كما تمت الإشارة إليه، وينشأ بسببه صراع داخلي في النفس بين نوازع الخير التي يباركها الله تعالى ونوازع الشر التي يولّدها الشيطان. وقد عبّر القرآن عن هذا الصراع بأساليب مختلفة وعرضه بصورة متعددة، ولعل من التعبيرات الجامعة في ذلك قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 8-10]. وينظم القرآن هذا المستوى من التدافع بمحاربة ما يسميه بـ(هوى النفس): وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41]. المستوى الثاني: التدافع في ظل المجتمع الواحد (Nation State)، وهذا المستوى تابع للأول، وبه ينشأ صراع بين الناس ولو كانوا تحت مظلة الإيمان، ولذلك ينظمه الشرع ببيان الحقوق ووضع الحدود. ويضع القرآن مبادئ مختلفة حلاً لهذا المستوى من التدافع، بوصفه مبدأً للشورى، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن أجمع هذه المبادئ هو مبدأ تحقيق العدل، ومن أهم صوره: العدالة الاجتماعيّة في توزيع الثروة والتوازن بين الحقوق والواجبات، ودفع المظالم والطغيان [قال ابن مسكويه: (إن العدالة موجودة في ثلاثة مواضع: أحدها قسمة الأموال والكرامات، والثاني قسمة المعاملات الإرادية، كالبيع والشراء والمعاوضات، والثالث قسمة الأشياء التي وقع فيها ظلم وتعد) (ابن مسكويه، أحمد بن محمد بن يعقوب، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق: ابن الخطيب، المطبعة المصرية (القاهرة 1398هـ) ط1، ص125)]، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]. والعدل مطلوب في نظر القرآن ولو مع الأعداء، كما يقرره قوله تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]. المستوى الثالث: التدافع الحضاري بين الأمم أو الشعوب المختلفة، والذي يشار إليه عادة بـ(الصراع) أو (صدام الحضارات)، وهو في الواقع ليس صداماً في جميع الأحوال وإنما ينقلب صراعاً وصداماً عندما يخرج عن ضوابط القانون الشرعي أو الفطري الذي تتحاكم إليه الأمم لتنظيم العلاقات بينهم. ويتخذ هذا المستوى من التدافع صوراً مختلفاً وله تجليات متعددة مثل: الكفر والإيمان، الحق والباطل، القوي والضعيف، العدل والظلم، الاستكبار والاستضعاف ..إلخ. وهو تابع بصورة أساسية للمبدأ الأول من التدافع، أي اختلاف الناس الذي يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99]. وهذا المستوى هو الأهم في هذه المستويات كلها في نظر القرآن، لأن به تتميز المواقع وتتحدد الدرجات في الدارين، وهي الغاية من قوله تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]. في هذا المستوى كثيراً ما يقع المسلمون في إشكال في فهم بعض الآيات التي تقرر أن النصر للمؤمنين لأنهم على دين الحق وخصومهم على باطل، والحق دائماً غالب والباطل مغلوب، كقوله تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141]، وقوله تعالى: كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، وما شابهها من آيات. بينما من حيث الواقع تراهم أحياناً يواجهون الهزائم، بل تمر عليهم فترات يخضعون فيها لغيرهم. إن منشأ هذا الإشكال هو الجهل بالسنن، والخلط بين مفهوم الحق وبين مفهوم الباطل، كما بيّنه رشيد رضا بقوله: "كل الوجود حق والعد باطل لا حقيقة له، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو حق والخلل فيها باطل لا تحقق له"، وأضاف: "ولا تنازع بين الوجود والعدم، ولا بين النظام والخلل، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به، فمن كان أعلم بالوجود والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق، وكانت له الغلبة بالحق" [مجلة المنار، المجلد التاسع، سنة 1906م، ص54]. الأصل في التدافع الحضاري هو أن يكون بالحسنى، كما يشير إليه قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 34]، وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون: 96]. وقد يكون التدافع بالمواجهة بالسنان لدفع الظلم والطغيان، ليحق الله الحق ويبطل الباطل، ويحصل النصر والتمكين [راجع أنواع التمكين من الوجهة القرآنية، وشروطه وأسبابه، ومراحله وأهدافه: على محمد الصلابي، فقه التمكين في القرآن (المنصورة: دار الوفاء، ط1، 2001م)]، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]. ويرسم القرآن لتنظيم هذا المستوى من التدافع قواعد عامة، يمكن تسميتها بلغة العصر: أسس السلام في النظام الدولي، أعلاها تكريم الإنسان مطلقاً بصرف النظر عمّا يدين به من اعتقاد، ويليها جعل التعارف الغاية من تفريق الناس إلى شعوب وقبائل. ثم من أهم المبادئ لتحقيق الاستقرار والسلام الدولي في نظر القرآن تحريم البدء بالعدوان كما يقرره قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]. ومن المبادئ المهمة هنا أيضاً الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91]. هذا إلى جانب العديد من المبادئ. الغاية من التدافع إن غاية التدافع في القرآن هو الاتّجاه نحو التوازن بإحداث التغيير، لذلك فهو تابع لسنة الحركة الشاملة للوجود كله. فالكون كله خاضع لسنة التغيير بطريقة أو أخرى، قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27]. فصور التدافع متعددة ولكن غايتها واحدة هي إيجاد توازن بشكل ما، مثل إظهار الحق الذي هو غاية التدافع بين الحق والباطل، ومثله التدافع بين القوة والضعف، والغنى والفقر، والسالب والموجب.. إلخ. وأهم ملحظ في مسألة التغيير الاجتماعي من الوجهة القرآنية هو أنه مهمة جماعية ترتبط بها أسباب رقي الأمم أو انحطاطها، وجعل الله كل ذلك موقوفاً على فعل الإنسان وحركته: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. فالإنسان هو الذي يبدأ في التغيير وفعل الله يطرد وينعكس مع فعله [راجع تفاصيل أوفى عن التغيير ومناهجه: مقررات الندوة المنعقدة في دولة الكويت في الفترة من 24-26 يناير 1994م، بعنوان: مناهج التغيير في الفكر الإسلامي المعاصر]. مجالات التدافع يعم التدافع الحضاري بين الأمم كل شعاب الحياة، ولكن أشملها الذي يتحدد في أربعة محاور: اقتصادي، واجتماعي، وثقافي، وسياسي. يكون العمل على تشكيل العولمة وصياغتها من خلال هذه المحاور الأربعة كلها، وإن كان لبعضها موضع الصدارة فإنها مترابطة من حيث النتائج. ففي السابق، بيد أن الغرض كان اقتصادياً، فقد بدأ الاستعمار بالمحور السياسي العسكري: قوة عسكرية تتقدمها دراسات اجتماعية – أنثروبولوجية، ويلحقها غزو ثقافي لمحو المعالم الذاتية وطمس الهوية الثقافية وزعزعة العقائد الدينية للشعوب. واليوم تم اختيار المحور الاقتصادي، لأن كل المحاور الأخرى: السياسي والاجتماعي والثقافي الديني، وغيرها يمكن تحقيقها من المدخل الاقتصادي فقط، بل بصورة أفضل مما كان. فالمال قوام الأعمال وشرط من شروط إتقانها، أي أن خطط التعامل الاقتصادي الراهن تؤدي أغراض الاستعمار بصور أفضل من تسيير الجيوش في الشوارع. فبات بذلك الاقتصاد هو المحور الجوهري لنظام العولمة، والتدافع الحضاري للأمم، مع التهديد بالقوة العسكرية. التدافع الاقتصادي إن أكثر ما يربط الأمم ببعضها هو علاقة الاقتصاد والتجارة، فمنذ العصر الحجري كانت الصلاة تجري بين الشعوب بدافع تبادل السلع والمنافع، التي عرفت بتجارة (البُكماء)، أي ليست لهم لغة مشتركة للتفاهم إلا إشارات البكماء. وقد اشتهر في العصر الوسيط التبادل التجاري الواسع بين شعوب البحر المتوسط. ووقع ذلك لأن تبادل السلعة من ضرورات الحياة. وكانت التجارة هي السبب في الكشوفات والانفتاح الغربي، ووصولهم إلى ما وراء البحار واستعمار الشعوب ونهب ثرواتها. فتفسير العولمة لم يتجاوز حتى الآن هذا المفهوم الاقتصادي، الذي يعني الحركة الحرة للبضائع ورؤوس الأموال والأرباح عبر الحدود على نطاق العالم من غير عوائق، دون أن تتبعها القوى العاملة التي هي رأسمال الشعوب المستضعفة! وبهذا المفهوم للعولمة انفتحت نافذة التدافع الاقتصادي بأوسع معانيه، وصار هو المدخل والمقدمة لسائر أنواع الوحدة المنشودة بين الشعوب. وكل ذلك لا يخفى على الإنسان المعاصر، وإنما الذي يهم أمة الإسلام هو: كيف يمكن توظيف التدافع الاقتصادي نفسه لتحقيق أفضل المنافع وأشملها للأمة وللإنسانية نحو العالمية الشاملة؟ الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز حدود هذا البحث، ولكن نقدم ملخصاً يحتوي على بعض المقترحات في هذا الشأن، وذلك قبل أن نخلص إلى النتائج العامة للبحث: ـ ضرورة الجماعية (grouping) في التعامل الاقتصادي، وذلك عن طريق تكوين تحالفات اقتصادية إقليمية قادرة على المنافسة، مع تجريدها من الجوانب السياسية بقدر الإمكان في هذه المرحلة، مثل: مجلس التعاون الخليجي وصندوق آسيان وغيرهما. لأن العولمة لا تسمح للاقتصاديات المحلية بأن تحيا مستقلة بنفسها بغير ذلك. ـ اتباع نظام الحماية للشركات الوطنية، في الوقت الذي تكون فيه قادرة على المنافسة، وذلك لما كانت الدول الإسلامية والعربية كلها من منظومة الدول النامية، فإنها لا تقدر على المنافسة وفق قانون نظام السوق، وبالتالي فإن تغلغل الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات في اقتصاديات هذه البلاد يفضي لا محالة إلى تعرض السيادة الوطنية للخطر، فضلاً عن انصرافها إلى الربح عن القضاء على الفقر والتخفيف من بؤس الفقراء. ـ ابتكار أساليب جديدة فعّالة للحد من الآثار السلبية المدمرة لنظام السوق الحرة [يشير مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا في هذا الصدد إلى مناقضة استراتيجية (السوق الحرة) للطبيعة البشرية (سنة إلهية) قائلاً: هم يعتقدون أن السوق سوف يصحح نفسه، ويسمون ذلك نظام السوق، ودعوى أن السوق ينظم نفسه تناقض الطبيعة البشرية، فالسوق يسعى دائماً إلى زيادة الأرباح (بصرف النظر عن معاناة الشعوب) they believe the market will correct itself. This is called the discipline of the market the assumption that markets will regulate themselves contrary to logic of human nature. The market is about to maximizing profits. (30\69)]. مثل تشجيع نظام التعامل بالدينار الذهبي، بديلاً لنظام العملة الورقية، حتى لا تتعرض أموال المسلمين للخطر بسبب التلاعب بسعر العملات، أو نهبها بدعاوى التجميد في البنوك اليهودية. فنظام السوق المطلق عن ضوابط المسؤولية تهديد بالغ للأمن الاقتصادي للبشرية. ـ محاولة التأثير على المنظمات الاقتصادية الأخرى، الإقليمية منها مثل صندوق آسيان للتعاون معها، أو العالمية مثل منظمة التجارة الدولية (W.T.O)، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها، وذلك ببيان الممارسات السلبية فيها، حتى لا تكون مجرد أدوات في يد الدول الكبرى لإفقار الشعوب. وبالمثل عدم استخدام الثروات الطبيعية لأغراض سياسية، بما في ذلك البترول، وإنما ينبغي ترشيد استخدامها لصالح أبناء الوطن أولاً، ثم الأمة والبشرية عامة. ـ أن يكون الغرض الأسمى للإنعاش الاقتصادي هو رفع معاناة الشعوب وسد حاجتهم، لأن أصول الثروة العالمية في ظل التكنولوجيا الحديثة تكفي لإغناء كل شعوب العالم، إذا أُحسن التوزيع. العمل بهذه المقترحات بدقة، يُعَدُّ نوعاً من التدافع بالتي هي أحسن في مجال الاقتصاد، وتعاوناً على البر والتقوى في سبيل صياغة نظام عالمي متعاون لصالح البشرية. أهم نتائج البحث نجمل أهم نتائج البحث المستخلصة من العرض السابق في الآتي: أولاً: بناء على السنن الكونية في التدافع الحضاري التي تجلت من خلال واقعتي بدر الكبرى وحنين، فإن (العولمة) بصيغتها الحالية هي المقدمة الطبيعية للظهور الكلي للإسلام على مستوى العالم. وعلامة ذلك انتهاء أحد القطبين الذين كانا سبباً في تخلف الشعوب المستضعفة. إن نظام القطبين والحرب الباردة بيد أنه وفّر للشعوب المغلوبة على أمرها هامشاً للحرية بعد أن عجّل بنيل استقلالها، فمن أهم مثالبه كونه حائلاً لهم دون التعرض للتحدي والاستفزاز الضروري للنهضة بالاعتماد على الذات. فكان كل دولة حديث الاستقلال يمكنها التأرجح بين القطبين كما تشاء وتجد الحماية الكافية، وتستورد منهما ما تشاء، دون تفكير جدي في الاعتماد يوماً على الذات، فمتى يشعر الطفل بخطر مجابهة الحياة إن كان بين يدي أبويه؟! [قال مالك بن نبي: "إن العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء الحضارة. وقد تنتهي هذه العملية ضمناً إلى أن تحصل على نتيجة ما، بمقتضى ما يسمى: الأعداد الكبيرة، أعني الصدفة". يشير بن نبي بكلامه الأخير إلى ما يسمى بنظرية كوانتم، أي النظرية الكمية. راجع: شروط النهضة، دار الفكر (دمشق 1993) ط4. ص48] إذاً الميزة الأساسية في نظام القطب الواحد في أنه لا محالة سيُعجّل بإلحاق أولئك الشعوب المتخلفة بالأمم المتقدمة، بتعريضهم للاستفزاز والتحدي اللازمين لإثارة دواعي اليقظة والتوجه إلى النهضة. ولذلك لن يشهد العالم في المستقبل المنظور صداماً للحضارات بالمفهوم الذي أطلقه هانتنغتون، لسبب بسيط هو عدم التكافؤ. ولأن المرشح الأول للتعرض لهذا الاستفزاز والتحدي هم المسلمون، فإن الحضارة الإسلامية هي البديل لخلافة الحضارة الغربية السائدة عالمياً. إذاً سيشهد العالم الإسلامي مزيداً من المجابهات ومزيداً من التحديات التي تأتي من قبل أمريكا خاصة، سعياً منها لزرع بذور الفتنة بين الأشقاء وتفتيت أرض الإسلام، ولكن ستنكشف كل تلك الدسائس سريعاً للعالم بفضل ثورة الاتصالات، وتثبت الحقائق، كما ستظهر حقيقة الإرهاب التي تحاول الغرب جاهدة إلصاقها بالمسلمين. وتلك المجابهات، وإن كان فيها أذى للمسلمين في المدى القريب، وهم مأجورون عليها، فإنها ستشكل استفزازاً كافياً لأمة الإسلام يدفعها إلى اليقظة والعودة إلى الذات من أجل النهوض مرة أخرى، اعتماداً على الذات، وهذا الذي سيُعجّل بظهور الإسلام العالمي. وعنصر آخر سيعجّل بالظهور الكلي للإسلام هو حرية الحركة والاتصال والتفاعل بين الشعوب التي هي من أهم سمات العصر. فمسارب الدعوة ومنافذها التي رفع من أجل فتحها لواء الجهاد في السابق باتت الآن مفتحة بفعل العولمة! ومعلوم من وقائع التاريخ أنه متى ما التقى الإسلام مع غيره من المذاهب والعقائد في أرض حرة، كانت له الغلبة من منطلق طابعه العالمي الذي يمكنه من الاستيعاب والتجاوز. ثانياً: بقراءة السنن الكونية التي تجلت من خلال واقعة الأحزاب، حيث كان التخاذل بين الحلفاء هو العنصر الحاسم، يثبت أن الدول الغربية لن تستمر مطية لمصالح أمريكا طويلاً، وإن حاول هانتنغتون إظهارهما بوصفها كتلةً واحدةً في مواجهة الغير. فإن المصلحة لا تدوم على حالة واحدة، لذلك ينبغي للعالمين: الإسلامي والعربي أن يستغلا هذا العامل نفسه في الدفع بالتي هي أحسن. بمعنى أنه يجب استغلال المبادئ الأخلاقية لعزل دعاة الحرب ومنظري (صدام الحضارات)، لأن ذلك هو الذي يخاطب الضمير العالمي السليم [فقد ظهر مثل هذا الضمير الإنساني السليم في المظاهرات التي تجتاح مدن العالم هذه الأيام للتعبير عن رفض الشعوب للتهديدات الأمريكية للعراق، مرددة شعارات مثل: (مفتشي الأسلحة للشرف ومفتشي الأخلاق للغرب) (weapon inspectors to East and moral inspectors to West)، وشعار (لا دماء في مقابل البترول “No blood for oil”، وشعار (الولايات المتحدة مصاص الدم العالمي (United States a Global Cannibal). وكما رفع بعضهم بكل بساطة شعارات مثل (لا للحرب “War, no!”). راجع كل ذلك: N.B.C، وكذلك مجلة Washington Post الأعداد بتاريخ 18-19/1/2003م]. ولتفادي الآثار الضارة لتلك المجابهات والاستفزازات ينبغي للمسلمين العمل من خلال ثلاثة جبهات: على المستوى الدولي، والمستوى الإقليمي، والمستوى الوطني المحلي. فعلى المستوى الدولي يجب أن يعملوا من أجل تقوية وصلابة صف الدول المستضعفة، وذلك بمحاولة جمعها في جبهة واحدة، من خلال تكوين مجموعات وتحالفات عمل من أجل التعبئة لمواجهة مخططات وأفكار وقضايا العولمة، لإحداث تأثير في القرارات الدولية. وعلى المستوى الإقليمي أيضاً ينبغي العمل على تكوين كيانات اقتصادية مؤثرة في التدافع الاقتصادي العالمي. ولكن تبرز المعركة الحاسمة لصياغة العولمة على المستوى الوطني، حيث ينبغي العمل على تقوية الجبهة الداخلية من أجل استقلال القرار ومن أجل البناء والبحث عن أفضل الطرق والوسائل للتعامل الأمثل مع الشعوب. لأن في نظام القطب الواحد لا أحد يستطيع فعل أي شيء لغيره أسوأ مما يفعله هو لنفسه، كما لا يستطيع أحد فعل أي شيء أفضل له مما يفعله هو لنفسه، فأهم يد مساعدة يحتاجها المسلم في نهاية المطاف هي ساعده الخاص [مهاتير محمد، العولمة والعلاقات الجديدة، مصدر سابق، ص96-98. راجع المصدر نفسه في أكثر الفقرات بالإنجليزية. As with the struggle against colonization, the time may come when the good elements amongst the powerful will see the injustice of their ways and throw their weight behind us. It may take along time as indeed colonialism took a long time to be condemned]. أو كما قال مالك بن نبي: (إن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر) [شروط النهضة، مصدر سابق، ص29]. ثالثاً: إذا كانت سنن الله في التدافع الحضاري قد أفادت بأن العولمة هي المقدمة الطبيعية للظهور الكلي للإسلام على مستوى العالم، فذلك لا يعني أن الإسلام قادم بدون عمل. لأن هذه السنة قد ارتبطت بسنة أخرى، وسنن الله المرتبطة لا تنفصل، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. على أن القانون الإلهي – كما قال المودودي – هو أن كل أمة تستعمل ما أتاها الله من قوى العقل والفكر، وتمضي قدماً في طريق البحث والتحقيق والاكتشاف، تتمتع، إلى جانب رقيها الفكري، بالرقي المادي أيضاً. وكل أمة تتقاعد في السباق في حلبة التفكير والتعمق في العلم تصاب، مع الانحطاط العقلي، بالتقهقر والاضمحلال المادي كذلك [المودودي، أبو الأعلى، نحن والحضارة الغربية، مصدر سابق، ص10]. إذاً لابد من المبادرة بتغيير الذات، والتقدم العلمي يعد من أهم وسائل العمل والتغيير في هذه المرحلة من تاريخ الأمة، لا التفوق الحربي بتكديس الأسلحة وآلات الحرب. فيجب على أبناء الأمة القيام بعمل مخطط ومدروس بالانصراف إلى العلم لا إلى القوة، فبالعلم يحصل كل شيء، وبفقدانه يضيع كل شيء [قال موريس بوكاي، وهو يشير إلى دور العلم في بناء الحضارة الإسلامية: "وليس من قبيل المبالغة أن نقول بأن هذا الأمر المبكر للإسلام، الناشئ بتشجيع العلم ورعايته، كان هو القوة الدينية الدافعة التي تكمن من وراء انبثاق الحضارة الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى، والتي جنت أوربا من ثمارها فوائد حضارية هائلة". راجع كتابه: ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1985) ص238]. فلا جدوى لردود فعل العابرة على استفزازات قوى الاستكبار من غير دراسة وتخطيط وإن طال الزمن. والمقصود بالعلم هو كل العلوم النافعة، لكن المقصود الأول هو العلوم التكنولوجية، والتقنية، فيجب على أبناء الأمة، شعباً وحكومات، التسلح بها حتى لا تتكرر المآسي التي شهدتها الأمة خلال تاريخها بسبب الاستهانة بالمعرفة والعلم الذي يُسخّر الدنيا للدين. فالعولمة هي فرصة المسلم لإعادة بناء ذاته وإثبات شخصيته العالمية، إنها فرصة لا تعوّض. وهكذا نخلص إلى أن التدافع بين الناس صار سنة ومقصداً للحكمة الإلهية به يحصل التنافس والتسابق، ولولاه لتقاعس الإنسان عن السعي لتحقيق وظيفة التعمبر في الوجود، ولتوقف عجلة الحركة الحضارية. ومن خلال المقارنة بين مفهوم التدافع الحضاري في القرآن، و(صدام الحضارات) يظهر التباين في مفهوم العولمة بين سنن الله الكونية والنظرة الإنسانية، من حيث ارتباط الأول بسنن الشرع والأخلاق الفطرية. ومن هذا الوجه ينبغي للمسلم، الذي يحمل رسالة الحق، أن يعترف بأمرين مهمين في هذا المجال، ويسعى إلى تنظيمها من غير تجاهل أو إنكار. الأول: إن التدافع في شأن الحياة، أمر لا ينفيه القرآن ولو كان بين أهل الإيمان، بل يثبته ويؤكد مثل كل أنواع التدافع التي شرع لها الأحكام، وإنما ينظمه ليصطبغ بالشرعية. وإدراك هذه الحقيقة نقطة مهمة لحملة راية الدعوة من تيارات الفكر الإسلامي المختلفة. وهنا لا داعي للتفريق بين التدافع والصراع إلا إذا كان تفريقاً أدبياً. الثاني: مع أن العاقبة للحق، فينبغي ألا يتوقع المسلم أن الحق دائماً معه، كما ينبغي ألا يتوقع نهاية حاسمة للصراع بين الحق والباطل مهما تغيرت صور التدافع وتعددت أشكاله [حصر الشيخ رشيد رضا صور التدافع بين الحق والباطل، من حيث موضوعه في خمسة أمور: الأول: التدافع في الآراء والنظريات الفلسفية من حيث الأدلة وطرق الاستدلال، ويتبين الحق في الدليل بإفادته اليقين وفي طرق الاستدلال بموافقة طرق القياس. والثاني في الوجود والسنن الكونية: وفيه كل وجود حق وكل عدم باطل، وكل نظام في الطبيعة والخليقة حق والخلل فيه باطل لا وجود له. والثالث: السنن الاجتماعية، واتباع هذه السنن حق والخروج عنها باطل. والرابع: القوانين والمواضعات العرفية بين الأمم في سياستها المحلية والخارجية فهي حقوق عرفية الآخذ بها على حق وله الغلبة على تاركها. والخامس: الدين والشريعة الإلهية، والحق والباطل في الدين يجريان من جهتين: أحدهما: كون عقائده صحيحة معقولة في نفسها، وأحكامه في العبادات والآداب موافقة للفطرة في تقويم الملكات وتهذيب الأخلاق، وتوثيق الروابط..، أو كونها ليست كذلك، وثانيهما: كون عقائده راسخة في عقول الأمة، مؤثرة في قلوبها، أو كونها ليست. فالدين سنة من سنن الاجتماع الكبرى وهو حق في الواقع أو باطل مؤيد بحق اجتماعي هو وحدة الأمة في الاعتقاد والعمل، ولأهله الغلبة والسلطان على من ينازعهم فيه. (مجلة المنار) المجلد التاسع سنة 1906م، ص52-65] وإنما عليه الاستعداد للمجاهدة والدفع بالتي هي أحسن نحو نقطة الاستقرار الوسط الذي يحفظ للبشرية سلامتها وأمنها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. فالقانون العام للتدافع هو الذي يبين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ويحدد مدى القدرة على التسخير المتبادل، وسنة الله المطردة في ذلك تأتي بصيغة المعادلة الآتية: كلما ازداد الإنسان معرفة بالسنن الإلهية في خلقه، ازداد قدرة على تسخير أخيه الإنسان: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32]. المصدر: مجلة التجديد / الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. السنة السابعة / جمادى الآخرة 1424هـ العدد الرابع عشر
| |
|
ibnrostom طاقم الاشراف
عدد المساهمات : 120 تاريخ التسجيل : 12/11/2010
| موضوع: رد: العولمة والعالمية في ضوء سنن الله الكونية الأربعاء 16 فبراير 2011 - 0:41 | |
| جزاكم الله خيرا | |
|