بوشويحةب الإدارة
عدد المساهمات : 1722 تاريخ التسجيل : 08/10/2010 العمر : 46 الموقع : بشار
| موضوع: النظرة العلمية المعاصرة للغيب الإثنين 14 فبراير 2011 - 10:43 | |
| النظرة العلمية المعاصرة للغيب
محمد باسل الطائي بدأً من حرق جيوردانو برونو حياً في روما عام 1600م دخل اللاهوت المسيحي والعقل العلمي الحر في صراع مباشر فيما تنامت في الوقت نفسه طروحات علماء الطبيعة وفلاسفتها باتجاه استقلالية الطبيعة والكون عن عالم المغيبات أو ما يسمى "الميتافيزيقيا".
لقد جاءت اكتشافات تايكو براهي ويوحنا كبلر وغاليليو غاليلي في مجال الرصد الفلكي واكتشافات اسحق نيوتن ولايبنز في الرياضيات والحركة والجاذبية وأعمال غيرهم من معاصريهم أو من الذين جاؤا من بعدهم لتعزز النظرة العقلية الصرف إلى الطبيعة والكون، تلك النظرة القائمة على أساس البحث والتجريب والاكتشاف بمعزل عن الخبر الديني الغيبي وما تقرره الكتب السماوية حول نشأة الكون والإنسان وتصرف الأشياء في الطبيعة. وبذلك نشأ تيار عقلي صرف في الأوساط العلمية وكانت له السيادة الفعلية، لا يجد أية ضرورة لوجود قوة غيبية تتدخل في نظام الكون أو خلق الحياة. عبرت عن هذه الرؤية إجابة بيير لابلاس لنابليون بونابرت حين سأله عن سبب غياب ذكر الله من كتابه " الميكانيك السماوي " التي قال فيها لابلاس: "يا سيدي إنني لم أجد في هذه الفرضية ضرورة لفهم نظام السماوات".
لقد اختصرت تلك الإجابة موقف أغلب العاملين في علوم الطبيعة على ذلك العصر والتي تشكلت نتيجة التعارض بين مكتشفاتهم وما جاء في العهد القديم بشأن خلق الكون ونشأة الحياة على الأرض ومستقبل الإنسان وموقفه بعد الموت وما تحويه الحياة الأخرى.
ظن الفيزيائيون ومعهم معظم علماء الطبيعة عند نهاية القرن التاسع عشر أنهم توصلوا إلى اكتشاف معظم قوانين الطبيعة وأنهم قادرون على تفسير ظواهرها من خلال قوانين الحركة وقانون الجاذبية العام، تلك القوانين التي صاغها أسحق نيوتن في كتابه "مبادئ الفلسفة الطبيعية" ومن خلال قوانين الانتقال الحراري والثرموديناميكس التي اكتشفها كارنو وهلمهولتز وكلفن وكلاسيوس وبولتزمان وغيرهم، وكذلك من خلال قوانين الإشعاع الكهرومغناطيسي التي أبدع توحيدها في نظرية واحدة جيممس كلارك ماكسويل بعد أن كان فاراداي وأمبير وكولوم ولنز وهرتز وغيرهم قد اكتشفوا أصولها.
بذلك بدت معضلات ظواهر الطبيعة قابلة للفهم والتفسير العقلي دون إشكال كبير، وعل أسس منطقية وحسابات رياضية متسقة مع ذاتها. ولم يتبق أمام الفيزيائيين إلا ملاحقة بعض التفاصيل الدقيقة هنا وهناك كقياس سرعة الأرض بالنسبة إلى الأثير، ذلك الوسط الافتراضي الغريب الخواص والذي فرضته متطلبات إنتقال الموجات الكهرومغناطيسية عبر الفراغ الكوني؛ فالموجة لابد أن تنتقل خلال وسط يحملها ولذلك لابد من وجود الأثير كوسط ناقل للموجة الكهرومغناطيسية. كما كانت هنالك معضلة صغيرة أخرى وهي ظاهرة شذوذ تصرف الإشعاع الحراري عملياً واختلاف نتائج التجارب عن ما تقضي به النظرية الكهرومغناطيسية. لكن المفاجأة جاءت مع بداية هذا القرن، القرن العشرين، إذ لم تجد محاولات الفيزيائيين نجاحاً لفهم تلك التفاصيل الدقيقة حول قضية الأثير، فالفيزياء التي يعرفونها غير قادرة على تقديم حلول ناجعة ، وبقي الأمر مستغلقاً ولم تنفع جهودهم لتوحيد قوانين الإشعاع الحراري في صيغة واحدة، حتى جاء ألبرت آينشتين بنظرية جذرية تقوم على مفاهيم مستحدثة وتصورات جديدة للتعامل مع المكان والزمان والحركة والطاقة، فكانت ( نظرية النسبية الخاصة ) التي كان من نتائجها أن أصبحت قضية الأثير وقياس سرعة الأرض بالنسبة إليه شيئاً من التاريخ.
كما جاء ماكس بلانك بتصور جديد للتعامل مع الإشعاع الحراري فأصبحت الطاقة وفق هذا التصور تنبعث وتنتقل وتمتص على شكل رزم تسمى (كمات Quanta )، محددة ومنفصلة بدلاً عن ما كان معتقداً من أنها تسري كتيار متصل. وسرعان ما وجدت هذه الأفكار توظيفاً في عالم الذرات والجزيئات وأمكن عن طريقها فهم بنية العالم الذري وبالتالي تفسير خواص الطيف الإشعاعي المنبعث عند تسخين المواد، تلك الخواص التي لم تكن مفهومة تماماً في السابق.
لقد جاءت نظريتي النسبية والكم بمفاهيم جديدة غريبة على العقل ، فمفهوم البعد الرابع واندماج الزمان بالمكان ومفهوم الأمواج المادية ودالة الموجة والتعامل الإجرائي مع المتغيرات الفيزيائية غير الصورة العقلية عن العالم. وهنا وعند هذه النقطة التاريخية بالذات إنتقل العلم من التعامل مع "المجسد" إلى التعامل مع "المجرد" ، فأصبح فهم الظواهر الطبيعية يقوم على ما يمكن تصوره في بنى العوالم المجردة التي تحكمها الرياضيات والتي لها صيغ عقلية قد لا تحتمل التصور الذهني بل تكتفي بالتعبير الرمزي الذي يستخدم لغة الإجراءات والعوالم المتعددة الأبعاد تعبر عن نفسها بالرموز والحروف الصغيرة والكبيرة واللاتينية والإغريقية والمائلة والمعوجة لتصور أحداث العوالم الذرية وتحت الذرية.
هنا يمكن أن نقول أن الفيزياء دخلت في كنف التعامل مع الغيب إذ صار المجرد لازماً لفهم المجسد، وغدت النظريات العلمية صوراً عقلية لنمذجة الطبيعة، وغابت الحقيقة بمفهومها التقليدي فأصبحنا نتحدث عن "النموذج الأصح" بدلاً من الحديث عن " الواقع الحق".إلا أن ما يميز هذا الغيب الفيزيائي عن الغيب الديني هو احتكام الأول إلى التجربة والقياس مما لا نجد له مثيلاً في حالة الغيب الديني. وبالتالي يبقى التصور الفيزيائي تصوراً عقلياً قابلاً للفحص والتحقق التجريبي وقابلاً للتغير أيضاً.
لقد حققت الرؤية الجديدة ( نظريتي الكم والنسبية ) والمنهجية الجديدة التي اتبعت (التعامل مع المجرد لفهم المجسد ) نجاحا كبيراً خلال العقود الستة الأولى من هذا القرن لفهم المادة والطاقة ونشأة الحياة، إذ فتحت آفاقاً واسعة أمام علوم الكيمياء الحياتية لفهم كثير من التفاصيل المتعلقة بالتراكيب الحيوية التي تؤلف بنية الخلية الحية، وقادت هذه الآفاق علماء الأحياء الجزيئية إلى اكتشاف الحامض النووي DNA وبالتالي اكتشاف الشفرة الوراثية التي هي سر ديمومة الحياة وتطورها. وهذا ما كان قد تم خلال الخمسينات من هذا القرن ضمن الأبحاث التي قادها واطسن وكريك.
هكذا بدا لعلماء الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة في بداية الستينيات أنهم قادرون على تفسير ظواهر الطبيعة وأن العلوم الجديدة التي جادت بها قرائح العلماء في النصف الأول من القرن العشرين هي علوم كاملة قادرة على فهم الكون والحياة بكثير من التفصيل والدقة دونما حاجة إلى "فرضية" وجود الإله حسب تعبير بيير لابلاس. فالكون نظام قائم بذاته لا يحتاج إلى خالق غيبي، وهو لم ينشأ عن شيء سابق بل هو أزلي سرمدي أو أنه موغل في القدم على الأقل بحيث لا يمكن تحديد بدايته، وهو واسع جداً بل يكاد أن يكون لا نهائياً. والحياة على الأرض نشأة بفعل الصدفة إثر توفر الشروط والظروف المادية والعوامل الفيزيائية والكيميائية التي تفاعلت مع بعضها بمساعدة الظروف الجوية والبيئية للأرض على مدى مئات الملايين من السنين لتكون الأحماض الأمينية التي تشكلت فيما بعد إلى الخلايا الأولية والكائنات وحيدة الخلية التي تطورت عبر ملايين أخرى من السنين إلى كائنات أكثر تخصصاً بفعل عوامل التطور والانتخاب الطبيعي التي استقرئها جارلس داروين في دراسته لتطور الكائنات الحية حتى آل الأمر أخيراً إلى نشوء الكائن الذي نسميه الإنسان على الصورة التي نعرفه بها الآن!
ولما كان موقع الأرض في الكون لا يحفل بأية صفة خاصة حسب اعتقاد الفيزيائيين في النصف الأول من هذا القرن ؛ فهي كوكب صغير في منظومة شمسية هي واحدة من مليارات المنظومات الشمسية والنجوم التي تنتظم في مجرة واحدة من مليارات المجرات الموجودة في هذا الكون، فإن نشوء الحياة في أي مكان آخر ممكن حالما تتوفر الظروف المادية اللائمة. كانت هذه هي النظرة السائدة في الأوساط العلمية عامة. لكن المفاجأة جاءت في منتصف الستينيات حين اكتشف الأمريكيان أرنو بنزياس وروبرت ولسن وجود خلفية إشعاعية شاملة تملأ الكون، هي عبارة عن موجات مايكروية (مايكروويف) وجدت وكأنها تأتي من الخلفية العميقة للكون. ولدى حساب درجة الحرارة المكافئة لهذه الموجات وجد أنها تزيد قليلاً عن الصفر المطلق (حوالي 3 درجات مطلقة أي 270 درجة تحت الصفر المئوي) مما يعني أن درجة حرارة الفضاء الكوني الخارجي هي عند هذه الدرجة المنخفضة.
تأتي أهمية هذا الاكتشاف من حقيقة كونه قد أعطى زخماً قوياً لفكرة ابتداء الكون في الزمان، فقد كان جورج جامو الفيزيائي الروسي الأصل قد طرح في نهاية الأربعينيات سيناريو متكامل لنشأة الكون يبتدأ بانفجار عظيم عند درجة حرارية عالية جدأ يخلق معه الزمكان ثم تبدأ الذرات الأولى بالتشكل بعد مرور حوالي 700000سنة على عمر الكون والذي يقدر الآن بحوالي 15مليار سنة. وبسبب التمدد المستمر برد الكون حتى وصلت درجة حرارته إلى حوالي 5 درجات مطلقة في الوقت الحاضر طبقاً لحسابات جامو وجماعته. لفد جاء اكتشاف بنزياس وولسن ليؤكد صحة ما توقعه جامو إذ أن درجة الحرارة التي وجداها قريبة جداً من توقعاته. مما دفع العلماء مرة ثانية إلى التفكير جدياً بمعنى خلق الكون ومعنى أن تكون له بداية في الزمان فاندفعوا لإجراء فيض هائل من الأبحاث النظرية واندفع الفلكيون في نشاط محموم لمزيد من الإرصادات الفلكية في محاولة لنفي أو إثبات موضوعة خلق الكون بإنفجار عظيم.
هكذا صار على العلماء أن يضعوا في اعتبارهم وجود بداية للزمن في أية عملية تطورية يناقشونها وصار عليهم أيضاً التدقيق والتحقيق في الظروف الإبتدائية لنشأة الكون. وبعد أن كان كل شيء واضحاً أو يكاد صار كل شيء غامضاً أو يكاد. وبالمزيد من البحث اهتدى علماء الفيزياء وعلماء الحياة في الثمانينيات من هذا القرن إلى حقائق شمولية جديدة لم تكن تخطر على بالهم ، إذ ظهر أن للشروط الإبتدائية في خلق الكون قبل حوالي 15 مليار سنة أثراً مهماً وخطيراً في إمكانية وجود أو عدم وجود الحياة على الأرض. كما ظهر أن لبنية الكون الواسع أثر دقيق وحساس جداً في هذه البقعة الضئيلة جداً منه وهي " الأرض" ، ذلك أن أي تغير في قيمة الثوابت الفيزيائية أو الظروف الإبتدائية من شأن تغيير المستقبل اللاحق للكون بما في ذلك مسألة وجود الحياة على الأرض، وبالتالي وجود الإنسان.
بهذا صار الكون ضرورياً للإنسان مثلما أن الإنسان ضروري للإقرار بوجود الكون. دعي هذا المبدأ "مبدأ الأنثروبي Anthropic Principle "وقد يترجم هذا المصطلح إلى العربية بعبارة "المبدأ الإنساني" لكنني أفضل ترجمته معنوياً وتسميته " مبدأ التسخير". وسنناقش هذا المبدأ في مقال آخر إن شاء الله تعالى. وإزاء هذه الكشوف الجديدة لم يعد للصدفة العمياء موقع ذي شأن في تبرير الحوادث الكونية، فالصدفة تحدث مرة واحدة وبدائلها كثيرة، أما أن تتركب صدف كثيرة، نادرة كلها، بعضها فوق بعض فهذا ما لا يقبله العقل والمنطق العلمي.
إن وجود زمن لا نهائي متاح أمام الصدفة يجيز حصول التراكيب النادرة ويفتح أمام الصدفة أو الدافع العشوائي سبيلاً ممكناً، أما أن يكون الكون ذي عمر محدود فهذا مما يحدد عملنا ضمن زمن محدود علينا أن لا نتجاوزه إذا ما أردنا القول بالخلق الحياتي بالدافع العشوائي في بنية الكون. لذلك قام فرانسيس كريك الذي اكتشف مع واطسن الحامض النووي والشفرة الوراثية بحساب احتمالية ترتيب سلاسل جزيئات الحامض النووي المؤلفة للبروتين الأولي المكوَن للكروموسومات فوجد أن هذا التركيب يمكن أن يحصل ضمن مصادفة احتمالها 10-260 كما حسب الزمن اللازم لحصول هذه الصدفة ضمن المدى اللازم للتفاعلات الحيوية المؤدية إلى تركيب الذرات والجزيئات لتأليف الحامض النووي ومن ثم تكوين الكروموسومات الأولى، فوجد أن عمر الأرض المحسوب جيولوجياً (وهو حوالي 4,5 مليار سنة ) لا يكفي !!.مع ذلك فقد بقي كريك معانداً محاولاً البحث عن سيناريو لتفسير نشوء الحياة على الأرض دون افتراض قوة خارجية مدبرة.(أنظر: فرانسيس كريك، طبيعة الحياة، موسوعة عالم المعرفة الكويت، 1989)
متأثراً بالأفكار الجديدة التي ولدت ما بين السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن قام بول ديفز الفيزيائي البريطاني المعروف بإعادة النظر في ما كان قد كتبه في بداية السبعينيات في الفصل الأخير من كتابه Space and Time in the Modern Universe حول العقل العلمي والغيب الديني قائلاً: " إن تفسيراً منطقياً للحقائق يوحي بأن قوةً هائلة الذكاء قد تلاعبت بالفيزياء بالإضافة إلى الكيمياء وعلوم الحياة وأنه ليس هنالك قوى عمياء في الطبيعة تستحق التكلم بصددها " (أنظر: بول ديفز،عالم الصدفة، ترجمة فؤاد الكاظمي، بغداد، 1987). ربما تلخص هذه العبارة الموقف الجديد لقطاع واسع من الفيزيائيين المعاصرين على اختلاف واسع بينهم في ما تعنيه تلك القوة الهائلة الذكاء التي تحكمت بالفيزياء والكيمياء وقوانين علوم الحياة لكي ينشأ العالم بهذه الصورة ويكون الإنسان. على ذلك نستطيع القول أن تياراً عقلياً موضوعياً قد نشأ في نهايات هذا القرن بين الأوساط العلمية متسائلاً عن جدوى وحقيقة رفض الإيمان بوجود قوة شاملة وراء خلق الكون ونشأة الحياة فيه. وبذلك أصبحت النظرة العلمية المعاصرة للمغيبات تتخذ مواقع أكثر تقدماً وموضوعية. نقول هذا ومعه نقول أنه ربما كانت النظرة الدينية الدارجة وفق المنطق القديم هي الأخرى بحاجة إلى إعادة تكوين وفق أسس موضوعية جديدة تجعل الإنسان قادراً على أن يرى المغيبات حقيقة يقرؤها في كتاب الكون المنظور كما يقرؤها في كتاب الله المسطور. (مجلة الاعجاز العلمي، العدد العشرون، محرم الحرام 1426هـ)
| |
|