بوشويحةب الإدارة
عدد المساهمات : 1722 تاريخ التسجيل : 08/10/2010 العمر : 46 الموقع : بشار
| موضوع: المبدأ الانثروبي أو مكانة الانسان في الكون الإثنين 14 فبراير 2011 - 10:53 | |
| المبدأ الانثروبي أو مكانة الانسان في الكون
جمال ميموني ونضال قسوم حول المبدأ الانثروبي جمال ميموني، خبير الفيزياء الفلكية النوتروينة وفيزياء الجسيميات في جامعة بانسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، والاستاذ المحاضر في جامعة قسنطينة في الجزائر، ونضال قسوم خبير فيزياء الفلك، واشعة غاما واستاذ زائر في مركز غودارد التابع للوكالة الفضائية الأميركية NASA، يؤسسان معاً لتيار اكاديمي علمي عربي اسلامي، وجد ديناميكيته الخاصة في فضاء عربي (الجزائر)، باتجاه تفعيل حركة بحث علمي اسلامي يعمق الصلة بين العلوم والمعطيات الروحانية للعقيدة الاسلامية، ومن أهم اعمالهما المشتركة باللغة العربية كتاب قصة الكون وهما في هذا البحث، يقدمان للمبدأ الانثروبي، الذي يؤكد علمياً على ان الكون قد خلق ليكون مكاناً للانسان.
مكانة الانسان في الكون عبر التاريخ احتل الانسان، في تصوره على الاقل، موقع المركز ومكانة الصدارة في الكون منذ العصور القديمة وحتى القرون الاخيرة. فلو طرح خلال تلك الفترة على شخص مثقف (رجل علم أو فلسفة او دين) سؤال: «هل تظن انه يمكن (أو كان من الممكن) أن يوجد كون خال من البشر طوال الزمان؟ لأجاب فوراً: «لا، لا يعقل ابداً». فالكون في تصور البشرية منذ ما قبل التاريخ وعند معظم الحضارات او كلها - حتى ظهور نظرية كوبرنيكس - ما هو الا مجالاً مادياً وضع من اجل تمكين الانسان من الحياة والعمل.
وتجسد هذا الاعتقاد في النظريات التي وضعها القدامى حول الكون والانسان، اذ تضمن جلها احد المبدأين التاليين (او كليهما في معظم الاحيان): الجيومركزية (geocentrism)، اي ان الارض تقع في مركز الكون، والانثروبومركزية (anthropocentrism) التي تعتبر الانسان جوهر الكون الذي يتمحور كل شيء حوله. ولكن عندما تقدمت الطرق العلمية، وبخاصة منها الأرصاد الفلكية، وبدأ الاختلاف يتأكد بين النتائج الميدانية وبين ما تقرره تلك النظريات، كان لا مفر من اعادة النظر في تلك المبادئ والاعتقادات الراسخة. وهذا ما قام به كوربنيكس، الفلكي القس، الذي امضى سنوات طويلة يدرس نظرية بطليموس الجيومركزية حتى تيقن انه ليس من الممكن التوفيق بينها وبين النتائج الرصدية، وان الحل الوحيد يكمن في اعتبار الشمس مركزاً للكون وجعل الارض تدور حولها كباقي الكواكب.
ولما كان كوبرنيكس يعلم جيدا ما يترتب عن ذلك من نتائج دينية وفلسفية، وما سيكون موقف الكنيسة من هذه الفكرة الجريئة، اجّل نشر كتابه الشهير الى آخر ايامه، اذ لم ير الصفحات الاخيرة مطبوعة الا وهو على فراش الموت، ذلك لأن ازاحة الارض من المركز يعني ان الجحيم التي يضعها الاعتقاد المسيحي في قلب الارض صارت مرمية في مكان ليست له اي اهمية او خاصية مهمة. والانسان، الذي عند النصارى خلقه الله في صورته ووضع له هذا الكون، صار يحتل موقعا ثانوياً. كل هذا طبعا لم يكن للكنيسة ان تقبله او تسمح به ابداً. ولذا تفادى كوبرنيكس الصراع والمواجهة وألح على ان يبقى الكون انثروبومركزيا، اي ان يحافظ الانسان على مكانته المركزية، وان الارض نفسها لم تزح عن المركز الا بقليل ضئيل، اذ المسافة بين الارض والشمس مهملة تماما امام ابعاد الكون الشاسعة. وتحلى كوبرنيكس بالدبلوماسية والادب فأهدى كتابه الى البابا.
لكن الفعلة كانت قد تمت والفجوة قد فتحت وكان من المتوقع جدا ان يأخذ بالفكرة رجال آخرون، لا تتوفر فيهم نفس اللباقة التي كان يتمتع بها كوبرنيكس. وحدث ذلك بالفعل مع غاليليو، الذي اوصلته شخصيته الفخورة والمغرورة الى صراع حاد مع الكنيسة، وكان الجديد مع غاليليو ان المنظار الفلكي، الذي كان قد اخترع منذ زمن قصير، صار يسمح له بإظهار واثبات ان ما على القمر من تضاريس لا يختلف اطلاقاً عما هو على الارض، وان للكواكب الاخرى أقماراً مثل ما للأرض، وبذلك يبرهن على ان ليست للأرض اي خاصية ترفعها او تميزها عن باقي الكواكب.
ثم تواصل تدهور مكانة الانسان في الكون مع تحطيم نظرية ارسطو التي وضعت الارض وسط السماء وقسمت عالم الافلاك الى مجال تحت قمري ومجال فوق- قمري واعتبرت السماء مستقرة والنجوم بعيدة وثابتة في الموقع والحالة، وتم تحطيم هذه الصورة عند ظهور المذنبات التي برهنت الارصاد على انها ليست تحت - قمرية، وظهور المستعر الاعظم (السوبرنوفا) في زمن «براهي» و«كبلر» وهو الشيء المناقض تماماً لتصور ارسطو، لأن ظهور نجم جديد ساطع جدا ثم اختفاؤه بعد مدة قصيرة شيء مستحيل في ذلك التصور.
ووصلت مكانة الانسان الى الحضيض في القرن العشرين مع اكتشاف المجرات الاخرى وابعاد الكون الحقيقية وبخاصة تعرف العلماء على عمر الكون. فبعد ان فقدت الارض موقعها المركزي ضمن المجموعة الشمسية فصارت كوكبا من بين تسعة كواكب ليست حتى اكبرها او اقربها الى الشمس، لم تعد الشمس ذاتها مركزية، اذ اتضح انها نجم عادي - بل صغير - من بين مائة مليار نجم في مجموعة ضخمة تدعى المجرة، وان الشمس تقع في ضاحية نائية منها. ثم اكتشف الانسان ان المجرة نفسها ليست الا واحدة من بين مئات الملايين من المجرات المماثلة موزعة في كون ذي قطر يساوي عشرة مليار مليار مرة اضخم من الارض وحوالى مليار مليار مليار مرة اكبر من الانسان. ليس هذا فحسب بل صار واضحا ان الكون هذا موجود منذ زمن طويل، فقد خلق منذ حوالى 01 مليارات سنة وان الانسان لم يوجد على الارض الا منذ بضعة ملايين سنة. زد على ذلك التطورات العلمية المختلفة، بخاصة منها نظرية التطور البيولوجي التي اعتبرت الانسان نتيجة سلسلة من التحولات البيولوجية عبر التاريخ، من حموض امينية الى خلية الى جسم بدائي الى حيوانات بسيطة ثم معقدة ثم قردة وبشر. وساهم ايضا في هذا السير التدهوري والاحتقاري للانسان ومكانته في الكون ظهور فلسفات تقلل من اهمية الانسان والحياة او تنفيها تماماً، كالمادية التي تلغي البعد الروحي للانسان، والوجودية التي لا ترى للحياة مغزى او قيمة.
لا قيمة خاصة للإنسان وادى كل هذا بالعلماء الى الالحاح على عدم اعطاء الانسان اي قيمة خاصة او مكانة مفضلة او دور هام في اي نظرية توضع سواء كانت علمية او فلسفية، وسمي هذا الموقف الجديد بمبدأ الرداءة (the principle of medioerity) واعتمد علماء الكون مبدأ مماثلا كنقطة انطلاق في الدراسات النظرية، اي محاولات وضع النماذج الكونية، وسمي بالمبدأ الكوسمولوجي (cosmological principle)، وهو ينص على ان الكون يجب ان تكون له نفس الصورة والخصائص من اي بقعة يرى او يدرس منها، اي بتعبير آخر، موقعنا الارضي لا يحتوي على اي خاصية بالنسبة لباقي الكون. وخلاصة القول ان الانسان في اواسط هذا القرن وجد نفسه ضائعا في هذا الكون الشاسع وحائراً في سير التاريخ والعلم والفكر.
التناغم الكوني وبعد التدهور الكبير الذي عرفته مكانة الانسان حتى القرن العشرين بدأت الكفة تميل الى الجهة المعاكسة حتى انه يمكن القول اليوم ان جوهرية الانسان في الكون عادت الى الواجهة وبقوة، لان العلماء، خصوصاً الفيزيائيين والبيولوجيين، بدأوا يكتشفون خاصيات مدهشة جعلتهم، بعد تراكم الادلة، ينصون على نتيجة من اهم ما تصول اليه العلم الحديث، وهي ان الانسان ليس فقط متلائما مع الكون، بل الكون ذاته قد خلق وضبط بطريقة تجعل وجود الانسان فيه ممكنا بل حتميا، فلو غيرت الثوابت الفيزيائية (التي يقوم الكون كله، شكلا ومحتوى عليها) ولو بقيم ضئيلة لكان ظهور الحياة عموماً والانسان بخاصة مستحيلا. هذه الدقة المذهلة الموجودة في الكون، والتي سنقدم عنها امثلة عديدة، هي ما نعبر عنه هنا بـ«التناغم الكوني». وهذه النتيجة العظيمة (ضبط خاصيات الكون من اجل ظهور ووجود الانسان) هي جوهر تلك الفكرة الهامة التي يدور حولها اليوم نقاش علمي وفلسفي كبير والتي سميت بـ«المبدأ الانثروبي» (anthropic principle).
الثوابت الفيزيائية أولاً يجب التوضيح ان الفيزياء تعرفت على عدد من الثوابت الفيزيائية الكونية التي يمكن وصف الكون شكلا ومحتوى انطلاقا منها. ما هي هذه الثوابت؟ يمكن ذكر ثابت نيوتن للجاذبية العامة g، وسرعة الضوء c، وثابت بلانك h، وكتلة الالكترون m، والشحنة الكهربائية الاولية e، والثابت الكسمولوجي الذي ادخله اينشتاين a، وعدد ابعاد الكون (3+1) ومقادير اخرى من هذا النوع. ما عددها الكلي؟ لا ندري بالضبط، ولكن تقدر اليوم بنحو 51، وتأمل الفيزياء تقليص عددها بتفسير قيم البعض انطلاقاً من الاخرى او من مبدأ اساسي تأمل اكتشافه في المستقبل. وطبعا يبقى من الممكن ايضا ان يضيف العلم ثوابت جديدة اذا اكتشفت قوانين وتفاعلات جديدة في الكون، كما حدث خلال لهذا القرن. هذه الثوابت اذن هي التي تعطي لمحيطنا بل للكون كله خاصياته المدونة، من لون وطول جسم الانسان والايقاع الاعظمي للجبال وكثافة الهواء المحيط بالارض ودرجة الحرارة وحجم الكواكب وكمية الطاقة المنتجة في الشمس وقطر المجرات الخ.. اي تغيير - ولو طفيف - لهذه الثوابت يؤدي الى تغيير كبير في المحيط، الشيء الذي يجعل وجود الانسان فيه مستحيلاً. لنعرض امثلة لذلك. - نعتبر مثلا ثابت الجاذبية G: اذا جعلنا قيمته اصغر مما هي عليه في الكون، فإن النجوم، التي تكونت بفعل التقلص الجاذبي للغازات في المناطق المختلفة للمجرة، لا تتمكن من الظهور لأن الحركة العشوائية لذرات الغاز تفوق الضغط الجاذبي، وعدم تكوين النجوم يعني ببساطة عدم تركيب العناصر الضرورية للحياة من كربون وأوكسجين ومثل ذلك. وبرهن العلم اليوم ان كل ما في الكون من عناصر كيميائية اثقل من الكربون (Fe, Si, Mg, NE, O, N, C الخ...) قد تكون داخل النجوم وألقي في المجالات الفضائية عند انفجار النجوم التي تم فيها التكوين. وفي الحالة المعاكسة، اي اذا اعتبرنا قيمة لـG اكبر مما هي عليه، فإن هذا يؤدي الى تكوين للنجوم وتقلص سريع لها يجعلها تعيش مدة قصيرة (من التكوين الى الانفجار او الانهيار)، وذلك لا يسمح للحياة ان تظهر لأن هذه العملية تتطلب ملايين السنوات وظروفا جد ملائمة (كما حدث بالنسبة الى الأرض والشمس). وتظهر البحوث من القيمة الحرجة منذ البداية، وكان الكون مسطح الهندسة للغاية، وكانت درجة الحرارة فيه موزعة بتجانس جد كبير، وخلاصة القول ان الانفجار العظيم عرض ان يكون فوضوياً (كما يحدث في الانفجارات عادة) وان ينتج ثقوباً سوداء عديدة ومتناثرة، كان بالعكس مميزا بدقة مذهلة. ثم هناك نتيجة اخرى جد هامة ورائعة تدعم فكرة الصنع المتقن للكون وملاءمته الدقيقة للانسان، تتمثل في عدد الابعاد الفضائية لهذا الكون لماذا يحتو يكوننا على 3 أبعاد بالضبط، الى جانب البعد الزمني طبعاً؟ لماذا لم يتضمن بعدين فقط او اربعة او غير ذلك؟ لقد طرح العلماء هذه المسألة على أنفسهم منذ مدة، ولما غابت عنهم الفكرة الانثروبية لم يتمكنوا من الاجابة عنها حتى الأزمنة المؤخرة. كان كانط، الفيلسوف الالماني الشهري، قد لاحظ ان ثمة علاقة مباشرة بين عددة الابعاد الثلاثة للفضاء وقانون نيوتن للجاذبية الذي يقضي بأن قوة التجاذب تتناسب عكساً مع مربع المسافة الفاصلة بين الجسمين المتفاعلين، ولكنه ظن ان صيغة قانون نيوتن هي المبدأ الجوهري وان عدد الابعاد (الثلاثة) هو الناتج ع ن ذلك.... ثم قام العالم الالماني «هرنفاست» (p. etrenfast) بدراسة المسألة بالتفصيل وتطرق الى جوانبها المختلفة فتوصل الى عدد من النتائج الهامة نذكر منها: ان وجود المدارات الكوكبية المستقرة لا يحدث الا اذا كان الكون ذا بعد يساوي 1 أو 2 أو 3... ان مبرهنة «غاوص» (GAUSS’S HEOREM) (المعروفة في الفيزياء والمتعلقة بالقوى التي تتناسب عكسا مع مربع المسافة، كالقوة الجاذبية والقوة الكهربائية) لا تصح الا في كون ذي ثلاثة ابعاد فضائية. ان الذرات والجزئيات الكيميائية لا تكون مستقرة الا في كون ذي ابعاد ثلاثة او اقل... ان الامواج الكروية، مثل الامواج الضوئية، لا يكون انتقالها في الفضاء بسرعة موحدة (اي سرعة الضوء) إلا في كون ذي ثلاثة ابعاد...
ان الاشارات الموجبة تحافظ على انسجامها (لا يحدث لها اعوجاج)، اي تنقل المعلومات كلها سالمة في حالتين فقط: كون احادي البعد، او كون ثلاثي الابعاد. ان معادلات «ماكسوال» (J.C. MAXWELL) (التي تصف الظواهر الكهرومغناطيسية) تبقى لا متغيرة عند تغيير المعلم (او المشاهد) - وهو الامر الذي الح عليه اينشتاين وادى به الى وضع نظرية جديدة (النسبية) للفضاء والزمن - في حالة واحدة: فضاء ذي ثلاثة ابعاد... فمن هذا تتضح اهمية الابعاد الثلاثة في كوننا ويتأكد مدى تلاؤم الوجود كله بفضائه وقوانينه ومحتواه مع وجود الانسان وتمكنه من العيش بسلام وبتقدم تدريجي. واخيراً نود الاشارة الى التناغم المذهل الذي يتجلى للانسان عند دراسته الدقيقة والمتمعنة في الحياة كظاهرة بيولوجية وفي قوانينها.
ان الحياة كظاهرة بيوفيزيائية هي حساسة جدا للمعطيات الكونية، حتى ان اغلبية البيولوجيين يعتبرون احتمال وجود الحياة في مكان ثان من مجرتنا ضئيلا جداً وان التصميم الدقيق لعناصر الحياة يبدو واضحا في البيولوجيا. اذ نجد عناصر عدة ذات خاصيات فيزيائية وكيميائية خارقة للعادة تقوم عليها الحياة. ان الاعتقاد بجوهرية الانسان في الكون وبضرورة وجود خالق مصمم للكون ومصور للانسان ادى بمعظم الحضارات القديمة الى تبني افكار مشابهة للمبدأ الانثروبي، رغم ان تلك لم توضع على شكل مبادئ او نظريات مؤطرة ولم تدرس نتائجها الفكرية والعلمية، وانما بقيت آراء فلسفية مبهمة.
وبدأ هذا التوجه الفلسفي يتخذ طريقا منهجيا علمياً مع نيوتن، الذي ادى به ايمانه العميق في خالق لهذا الكون المضبوط الى الاقتناع ان ثمة - لا شك - قانوناً جوهريا بسيطاً تسير الاجرام السماوية وفقا له وبالفعل تمكن نيوتن من استنباط قانون التجاذب العام وصياغته صياغة رياضية من ابسط واروع ما يكون ولكن هذا التقدم النوعي الهام- الذي نلح على صلته بالاقتناع بحجة الصنع واتقان الخالق لما اوجد - لم يصل الى مستوى تقديم تفسير ما للدقة الكونية او لجوهرية الانسان.
ووجب انتظار النصف الثاني من القرن العشرين، وبالضبط سنة 1691 ليبدأ التطرق الى تلك المسألة الفلسفية - العلمية بمنهجية علمية اي بمبدأ الملاحظة ثم وضع تفسير ثم اخضاعه للتجربة. وكانت البداية الفعلية لدراسة هذا الموضوع مع روبرت ديكي ROBERT DICKDE)) سنة 1691 حين لاحظ انه لا يمكن للفيزيائيين (او للبشر) دراسة الكون والتساؤل حوله الا في فترة معينة من حياة هذا الكون، بالضبط بين . المبدأ الانثروبي حوالى 01 و02 مليار سنة بعد خلقه! لماذا؟ لأن ظهور الانسان يستدعي باعتماد التصور التطوري الذي يقضي بتكوين العناصر اللازمة للحياة (الكربون والاوكسجين وما الى ذلك) داخل النجوم ثم بعثرتها في الفضاء اثر انفجار النجوم (اي عند موته) ليتم تكوين الكواكب وظهور الاجسام الحية بناء على هذه العناصر، وهذا كله يستلزم حوالي 01 مليار سنة، ومن جهة اخرى، لا يمكن انتظار مدة طويلة جدا والا تختفي الحياة في الكون اما بتقلص هذا الاخير او تواصل التطور الكيميائي مما يجعل الفضاءات الكونية غير ملائمة لظهور وعيش البشر، اذ بعد حوالي 02 مليار سنة تكون النجوم قد ماتت كلها او جلها ولا عيش من دون طاقتها ومن دون وجود هيدروجين يشعل نجوماً اخرى. والاهم في الامر ان ديكي تفطن واشار الى ان الاختيارات المختلفة لمقادير الثوابت الفيزيائي المتعددة ليست كلها ملائمة لهذا الشرط بتعبير اوضح، لو كانت قيمة ثابت الجاذبية g او شحنة الالكترون e(او غيرها) مختلفة عن القيم المعروفة في كوننا لربما وجد الكون كله، من خلقه الى نهايته في اقل من 01 مليار سنة، اي لما يظهر فيه البشر اطلاقاً!
وفي العشرية الموالية وانطلاقا من سنة 4791 قدم الفيزيائية الفلكي البريطاني «براندن كارتر» اعمالا واستنتاجات في منتهى الاهمية في هذا الصدد، لاحظ من خلالها تلك الدقة المذهلة الموجودة في قيم الثوابت الفيزيائية مما جعله يستنتج ان هذا الكون قد اختيرت خاصياته بدقة مذهلة وذلك لضمان ظهور الانسان عند زمن ما من تاريخ الكون. ثم قدم الفيزيائيان «جون بارو» 0j. barrow)) و«فرانك تبلر» (f. tipler) مساهمة عظيمة سنة 6891 بالكتاب الذي ألفاه: «المبدأ الانثروبي لكوسمولوجي) الذي لقي اقبالا رائعا من طرف المفكرين بمن في ذلك المعارضين لهذا المبدأ - لان الكتاب فرض نفسه كمرجع اساسي في الموضوع بسبب الكميات الهائلة من المعلومات التي احتواها، ثم كذلك للاجتهادات المبتكرة التي أتى به مؤلفاه، حتى انهما قدما صيغة جديدة للمبدأ الانثروبي باستنتاجهم الفكرة المذهلة التالية (وهي لا تزال محل جدال حاد): ان الكون قد هيأ فعلا لظهور الانسان وان هذا الاخير لن يختفي منه ابدا بل سوف يصل الي نقطة يتحكم فيها في الكون كلية!
يبقى ان نشير في سياق هذا العرض للتطور التاريخي لهذا المبدأ انه ظهرت اصوات معارضة لهذا المبدأ اما في ما يخص الفكرة ذاتها او في ما يتعلق بالتسمية والصياغة. فلقد اقترح الفلكي الكندي - الفرنسي ريفز (H.REEVES)، الذي لا يرد جملة المشاهدات والنتائج التجريبية التي ادت الى صياغة هذا المبدأ، اقترح تعويض التسمية «المبدأ الانثروبي» بمصطلح «مبدأ التعقيد» (PRINCIPLE OF COMPLEXITY) ذلك لانه من شدة تأثره بشبح كوبرنيكس يلح على عدم اعتبار الانسان غاية هذا التطور والتصميم الدقيقين، ففي رأىه لا ندري هل الانسان و- حتى حالياً - قمة ذلك التطور، وربما سوف تنظر الاجناس المتطورة بعد عشرات ومئات الآلاف من السنين الى الانسان كما ننظر اليوم الى النملة، وبالتالي تكون تسمية هذا المبدأ بالانثروبي (اي «البشري») مضحكة.
الوضع الفلسفي والعلمي للمبدأ علينا ان نؤكد ان هذا المبدأ بصياغاته المختلفة قد ادى الى نقاش وجدال كبيرين بين العلماء والمفكرين. منهم من ايد المبدأ والنتائج التي انبنى عليها بقوة، ومنهم من رد ذلك كله اما على أسس عقائدية او على اسس منهجية نقدية، كانت دقيقة احياناً، ويمكن تلخيص العراك القائم حول المبدأ الانثروبي بالسؤال التالي: هل هذا المبدأ علمي بالمعنى الدقيق للكلمة، اي انه يؤدي الى تنبؤات ونتائج يمكن المشاهدة والتجربة تأكيدها او تكذيبها، ام هو مجرد تحصيل حاصل (tautology)، كأن يعرف المبدأ الانثروبي مثلا بالصيغة الفارغة التالية: نحن موجودون اذن هناك في الكون خاصيات تسمح للانسان بالظهور... وهذه المسألة الفصل فيها سهل الى حد بعيد، اذ سنبرهن في الفقرات المقبلة ان هذا المبدأ يخرج للعلماء جملة من التنبؤات الدقيقة، بعضها اكدتها التجربة فعلاً!..
ولكن يبدو لنا ان هناك سبباً هاما في سخونة الجدال حول هذا المبدأ ليست له علاقة بالأسس او المنهجية التي يقوم عليها وانما يتعلق بالمتوجه الفكري العام الذي يتخذه دعاة المبدأ الانثروبي والذي يتمثل في اعتبار غاية الاشياء في الكون (من اجسام وقوانين وما الى ذلك من اسس هذا الوجود). وهذه الفكرة كانت معروفة قديما اذ كان ارسطو يبحث في الظواهر عن «الأسباب الاولية»، وهي اسباب حدوث الظواهر بالمعنى المعتمد في العلم الحديث، وكذلك عن «الاسباب الغائية»، وهي غايات الاشياء او ما تسير نحوه. وأتى العلم الحديث ليرد هذه المنهجية ردا تاماً، اذ يعتبر السببية البسيطة التي تعتبر الظواهر على الشكل التالي: شروط اوليه + قوانين --------> حالة نهائية اسباب -------------> ظاهرة والمشكلة ان المبدأ الانثروبي يعيد - في منظور البعض - ذلك التفكير القديم، اذ يصر على ان الشروط الابتدائية في الكون (الثوابت والقوانين الموضوعة) كانت كذلك لأن الهدف منها كان اخراج الانسان (او العقل والوعي) الى الوجود... اما عن كون المبدأ الانثروبي يخضع لمقاييس المنهج العلمي وينضبط بها فهو شيء يمكن البرهنة عليه بتقديم بعض التنبؤات والنتائج التي توصل اليها: تنبؤ «هويل» الكبير واجهت فيزياء الفلك مشكلة عويصة مع مطلع الاربعينيات من القرن الماضي، اي بعد تعرف العالمين بيته (h. bethe) وفون فايتسيكر (c. von weizsacker) على كيفية اشتغال النجوم، اي كيفية توليد الطاقة (التي يتم اشعاعها عند السطح) عن طريق المفاعلات النووية، وهي ايضا طريقة انتاج العناصر الكيميائية الضرورية للحياة، من كربون واوكسجين وحديد وغير ذلك، ذلك ان آليات تحويل الهيدروجين الى هليوم ثم التأكد منها جيدا، ولكن آليات تحويل الهليوم الى عناصر أثقل منه بدت كلها غير ممكنة. وبقي المشكل قائما مدة عشرين سنة تقريبا، بالضبط حتى سنة 7591 حين تقدم هويل بتنبؤ عظيم كان مؤسسا على فكرة انثروبية، وهي ضرورة وجود الكربون والاوكسجين بنسب معينة في الكون من اجل ظهور الحياة والانسان. فقال ما يلي: يتم انتاج نواة واحدة من الكربون بتحويل 3 انوية من الهليوم عن طرق تفاعل نووي رنان، وحتى يحدث ذلك يجب نواة الكربون ان تحتوي على مستوى اثارة ذي طاقة تقارب 56.7 ماف (ماف - مليون الكترون - فولط). وبالفعل تم قياس ذلك تجريبيا بضع سنوات في ما بعد ووجد في الكربون مستوى ذو طاقة تقدر بـ656.7 ماف، ليس هذا فحسب، بل اوضح هويل ان الاوكسجين يتم انتاجه بتفاعل نواة من الكربون مع نواة من الهليوم، وحتى لا يتم تحويل كل الكربون الى اوكسجين (مما يحول دون ظهور الحياة) يجب للتفاعل الا يكون رنانا، ولذلك يجب لنواة الاوكسجين ان لا تحتوي على مستوى اثارة اعلى من 61.7 ماف. وبالفعل وجد مستوى طاقوي في نواة الاوكسجين عند 7811.7 ماف! وهذا التنبؤ المزدوج، الذي قدمه هويل حتى قبل تقديم ديكي وكارتر اعمالهما وصياغتهما للمبدأ الانثروبي شهير جداً لجرأته اولا ونجاحه العظيم ثانياً.
تنبؤ «كارتر» المذهل توصل كارتر الى معادلة تربط الزمن المستقبلي الذي سوف تتمكن فيه الحياة من البقاء على الارض بالزمن المنقضي منذ تكوين الارض (6.4 مليار سنة)، ويدخل في هذه المعادلة عدد المنعرجات الحرجة التي مرت بها الحياة في تطورها على الارض (مثلا تكوين الجزيئات المعقدة، تشكيل الحمض النووي، تركيب الخلية الأولى، الخ). طبعاً هذا التنبؤ صعب التحقق من ؟؟؟؟ تتاح للعلماء قبل عشرات الآلاف من السنين على الاقل، ولكنه استنتاج علمي بأتم معنى الكلمة.
تنبؤ «بارو» و«تيلر»: اكد العالمان «بارو» و«تبلر» في كتابهما المشار اليه آنفاً ان الانسان سيتمكن من احتلال الكون كله والسيطرة علىه عند نقطة مستقبلية تدعى omega عندما يتطور الانسان الى حد السيطرة تدريجيا على كوكبه ثم مجموعته الشمسية ثم مجرته ثم الكون كله، بل على الطبيعة والمادة بعد ان يكون قد تحرر من قيودها وصار عقله خالصا متواجدا في «كل مكان»... طبعا تبدو الفكرة خيالية، الا ان «بارو» و«تبلر» يقدمان حجج عدة لدعمها، ولكننا لن نخوض في هذا المجال اكثر من هذا... وفي الختام نود الالحاح على اهمية «المبدأ الانثروبي» من الناحية الفكرية والعلمية في آن واحد، مما جعله يحتل مساحة مهمة من النقاش الفلسفي الراهن. ومن جهة اخرى نود التركيز على عودة مبدأ مركزية «او «جوهرية» الانسان في الكون - وبقوة - بعد ان كاد الانسان ان يحتقر نفسه ووجوده الى حد اليأس.
| |
|