بوشويحةب الإدارة
عدد المساهمات : 1722 تاريخ التسجيل : 08/10/2010 العمر : 46 الموقع : بشار
| موضوع: فروسية ـ قصة قصيرة ( للمازني) السبت 19 فبراير 2011 - 21:59 | |
| إبراهيم عبدالقادر المازني
"الفروسية"
دعينا أنا وطائفة من الإخوان إلى قضاء يومين في ضيعة أحدهم، وكانت قريبة من إحدى الضواحي، فركبنا القطار إلى ……..وهناك وجدنا طائفة شتى من الخيل والبغال والحمير، فتوهمت في أول الأمر أن هناك سوقا للدواب، أو معرضا لها. ثم علمت أنها لركوبنا، فاخترت من بينها حمارا صغيرا، وهممت بامتطائه، ولكن صاحب الضيعة وداعينا عزَّ عليه أن يركب المازني حمارا، وجاءني بجواد أصيل وأقسم علي لأركبنه، فاستحييت أن أقول له: إني أخاف ركوبه وأنه لا عهد لي بالخيل ودنوت من بعض الخدم وهمست في أذنه هذا السؤال:
قل لي: كيف تركب هذا الحصان؟ فتأملني مليا، ثم قال وعلى فمه طيف ابتسامة: على ذيله ! قلت: على ماذا؟ قال على ذيله، وأشاح عني وجهه.
فذهبت إلى الجواد وأدرت عيني في ذيله، ثم هززت رأسي وعدت إلى الخادم أسأله:
ألا تظن يا صاحبي إن الأحزم أن أمتطيه قريبا من العنق لأستطيع عند الحاجة أن أطوقه بذراعي؟ فلم يزد الرجل على أن قال: ربما !وانصرف عني إلى سواي. وكنا جميعا في هرج ومرج، نصيح ونضحك، وكان لا بد أن أفعل شيئا، فناديت مضيفنا وقلت له: أريد سلما. قال في دهشة: سلما ! ما حاجتك إليه؟ قلت: حاجتي إليه أني أريد أن أصعد فوق ظهر هذا المجلي يا صاحبي ! فضحك وقال: أنا أساعدك ! ودفعني على ظهر الجواد دفعة خيّل إلي أنها ستلقيني على الأرض من الناحية الأخرى. وسرنا مسافة على مهل، ثم وخز أحدنا دابته فمضت تعدو، واستحث آخر مطيته وانطلق بها وراءه، واقترب مني ثالث وأهوى على جوادي بعصا معه فوثب الجواد وراح يسابق الريح أو هكذا خيل إلي وأنا أعلو وأهبط فوقه، ثم أحسست أن أمعائي ستتقطع، وأتلمس بيدي شيئا أمسكه وأتعلق به، فيفلت من قبضتي كل ما تصل إليه، فارتميت على عنقه وطوقته وجعلت أنادي من حولي وأناشدهم الذمة والضمير والمروءة أن يوقفوا هذا الشيطان، وأدرك أحد إخواني العطف علي فصاح بي: ولكن نوقفه زنحن راكبون؟ فغاضني منه هذا البله، ولم يفتني ما في الموقف من فكاهة على الرغم من الألم الذي أعانيه، ومما أتوقعه إذا ظل الجواد يركض بي، فقلت: يا أبله إنزل واقبض على ذيل حصاني وشده ! وكان أحد الخدم قد أدركني، وأمسك باللجام، ورد الجواد. فما أسرع ما انحدرت عنه، وكأنما أعجبتني جلستي على الأرض، فأخرجت سيجارة وأشعلتها وذهبت أدخن. وجاءني مضيفنا على أتانه، فسألني: أتنوي أن تقعد هنا إلى الأبد؟ فأغضيت على سؤاله وقلت: إن بي حاجة إلى الشعور بثبات الأرض بعد كل هذا التقلقل وتلك الزعزعة ! قال: ولكنك لا تستطيع أن تظل جالسا هكذا، إن أمامنا سير ساعة ، فقلت: سألحق بكم إذا أو أرجع إذا كان لا بد من ركوب هذا الزلزال ! قال: ولكن لا يليق أن تركب حمارا ! قلت وقد صار في وسعي أن أضحك: في وسعك أن تعلق ورقة تكتب فها أنه جواد مطهّم(نحيف الجسم) قال: لا تمزح، قم واركب حماري، قلت: إذا كان الحمار عاليا فما الفرق بينه وبين الجواد؟
قال بلهجة اليائس أو المنتقم: إذا خذ هذا، وأشار إلى جحش قميء مهين يركبه خادم، لا سرج عليه ولا لجام له، فقمت إليه وامتطيته بوثبة واحدة وبلا معين، واعترضتنا قناة عريضة عليها ألواح مثبتة تقوم مقام الجسر، وبين الألواح الماء تحتها متر على الأقل، فلما توسطها الجحش بدا له أن يقف، وراقه منظر الماء فأجال فيه عينيه برهة ثم خطا إلى حافة الجسر –ولم يكن له حاجز- ومد عنقه إلى الماء فظننت أنه قصير النظر، وأنه يفعل ذلك ليكون أقدر على رؤية خياله في الماء واجتلاء طلعته البهية في صقاله، ولكنهم قالوا لي: إنه يريد أن يشرب، فنزلت عنه وقلت له: يا عزيزي إن من دواعي أسفي أني مضطر أن أتركك إلى الماء وحدك فإن ثيابي يفسدها الماء، وهي غالية إذا كانت حياتي رخيصة.
ولكنه بعد أن فكر قليلا غير رأيه، إما لأن الصورة التي طالعته في الماء كانت مضطربة مشوهة، وعجز الماء عن أداء ما فيها من جمال وروعة، أو لاعتبارات حمارية أخرى لم يكاشفني بها، فأدار وجهه ومضى غير متلفت إلي، غير أني لحقت به بعد أن اجتاز الجسر، وقلت له: تعال، لا تهرب مني يا صاحبي، وكنت على ظهره قبل أن يتمكن من الاعتراض أو الاحتجاج أو الافلات. ويطول بنا الكلام إذا أردت أن أصف كل ما أمتعني به من الفكاهات العلمية. فقد كان فيه عناد وصلف(التكبر)، وكان يأبى أن يتوسط الطريق، ولا يرضيه إلا أن يحك جنبه في كل ما يلقاه من شجرة أو عربة أو حائط. وربما وقف وغرس رجليه في الأرض ونام، وتعودت منه ذلك، وفطنت إلى أنه ذو مزاج مستقل، فكنت أتركه واقفا حتى ينتبه من هذه الإغفاءات أو يعود من سبحات عقله السقراطية فيستأنف السير.
وحسبي وحسب القراء أن أقول لهم: إني أسفت على فراقه لما انتهت الرحلة وتمنيت لو أن صحبتنا كانت أطول. النص مقتبس من كتاب " صندوق الدنيا " للمازني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالتعريف بالكاتب: هو إبراهيم عبد القادر المازني ولد في القاهرة عام 1308هـ الموافق لـ1890م، وتعلم في مدارسها الابتدائية والثانوية والعالية، وبعد تخرجه من مدرسة "المعلمين العليا" اشتغل بالتدريس في المدارس الحكومية، ثم تركه لينتقل بين التدريس في المدارس الحرة و العمل في الصحافة، وهذا حتى وافته المنية عام 1369هـ الموافق لـ1949م. وللمازني كتبا عدة في الأدب والنقد نذكر منها "خيوط العنكبوت" ، "من النافذة" "إبراهيم الكاتب" وكذا كتابه "الديوان" وهو كتاب في النقد ألفه بالاشتراك مع العقاد الذي جمعته معه صداقة متينة دامت 38 سنة أي من عام 1911 إلى أن مات المازني في عام 1949. وقد تجمعت عوامل عدة ومختلفة في المازني حتى جعلت منه ذلك الكاتب الساخر، فقد ألمت به محن كثيرة في حياته، حيث كان يتيما منذ الصبى، إلى فقدان زوجته الأولى والثانية، ثم ابنته الوحيدة، ثم أصيب بكسر في ساقه لازمه حتى الموت. فنظر إلى الحياة بعين الساخر وانعكست هاته النظرة على أسلوبه، فأصبحت ذات طابع مميز. | |
|