صناعة عربية؟ إذن مغشوشة !
د . فيصل القاسمللوصول إلى الموضوع الأصلي إضغط هنا إذا فسدت الحياة السياسية فلا بد أن يفسد كل شيء معها. يقول
كارل ماركس في مؤلفه الشهير "رأس المال
" إن الاقتصاد يُعتبر البناء التحتي لأي مجتمع، أما البناء الفوقي فهو تلك الثقافة التي يفرزها البناء التحتي، بما في ذلك طبعا النظام السياسي والعلاقات الاجتماعية والثقافة السائدة.
وإذا أردنا أن نطبق نظرية
ماركس هذه بطريقة أخرى سنجد أن السياسة هي بمثابة البناء التحتي عندنا نحن العرب، وكل ما تفرزه من واقع اجتماعي وثقافي وتجاري واقتصادي فهو بمثابة البناء الفوقي. وإذا كان الأساس التحتي مغشوشاً فلا عجب أبدا أن يكون الفوقي نسخة طبق الأصل . بعبارة أخرى، فإن السياسة لدينا هي أصل الداء والبلاء، أما أمراضنا الثقافية والاجتماعية والتجارية والاقتصادية والصناعية فهي مجرد أعراض لذلك الداء .
فلو أخذنا الصناعات العربية مثالاً، لوجدنا أن أساسها الغش بشهادة البائعين والتجار العرب. وكم يشعر المرء بالحسرة والحزن وأحياناً بالقرف عندما يدخل محلاً تجارياً في هذه العاصمة العربية أو تلك ليشتري سلعة ما، فإذا بالبائع يحذره فوراً من مغبة شراء سلعة عربية، وكأنه يقول له:
صناعة عربية، إذن فهي بالضرورة مغشوشة. من الأفضل أن تشتري سلعة مصنوعة في بلد أجنبي. وأتذكر أنني دخلت محلاً
لبيع الأثاث في إحدى المدن العربية لشراء كراسي بلاستيكية للحديقة، فوقعت عيناي على مجموعة من الكراسي، وطلبت شراءها، فإذا بالبائع يقول لي: "لا أنصحك بها، فهي صناعة وطنية، ولا أستطيع أن أعطيك عليها أي ضمان، ربما تغير الشمس لونها بعد شهر أو أقل، لهذا أنصحك بشراء كراسي تركية، فهي مضمونة لثلاث سنوات على الأقل، ولونها لا يتغير، فالأتراك يستخدمون مواد جيدة في صباغة البلاستيك، أما مصنعنا الوطني فهو يستخدم مواد فاسدة قديمة انتهت مدتها منذ زمن، لهذا، فلون الكراسي يتلاشى بعد فترة قصيرة جداً". ومضى البائع يشرح لي روعة البضائع التركية المتوفرة في محله، وساخراً من البضاعة المحلية المغشوشة في كل جزء من تركيبتها، حسب وصفه.
وسألت ذات يوم
طبيباً عربياً عن المضادات الحيوية التي تصنعها بعض الدول العربية، فحذرني من شرائها، لأنها في الكثير من الأحيان منتهية الصلاحية منذ زمن. تصوّروا أنهم يغشّون حتى الدواء الذي تتوقف عليه حياتنا وحياة أبنائنا وأهلنا. وراح الطبيب يشرح لي كيف يتم تصنيع الأدوية، وخاصة المضادات الحيوية، فقال لي إن البودرة المستخدمة في صناعة المضادات يختلف سعرها حسب جدّتها، أو متى تم تصنيعها، فإذا كانت البودرة جديدة تماماً فيصل سعر الطن منها إلى ألوف الدولارات، وكلما مضى الوقت على تصنيعها انخفضت قيمتها المادية والعلاجية. وقد أسرّ لي بأن بعض مصانع الأدوية العربية تشتري مواد أولية لصناعة الأدوية تكون إمّا انتهت صلاحيتها، أو لم يبق على انتهائها سوى بضعة أشهر. بعبارة أخرى، فبدلاً من أن تشتري مصانع الأدوية العربية مواد أولية جديدة بأسعار عالية، يقومون بشراء مواد قديمة لأنها أرخص بكثير، وتدر عليهم أرباحاً طائلة بغض النظر عما إذا كانت تعالج الالتهابات أو تداوي المرضى .
وكم حدثني
أطباء عن تصنيع مواد تخدير وبيعها للمستشفيات الوطنية علماً أنها لا تخدر تماماً، لأن المصانع أيضاً استخدمت في تصنيعها أرخص المواد الطبية. وقد وصل الأمر ببعض المشافي العربية الغراء إلى شراء مواد تخدير فاسدة بسبب وجود مصالح تجارية بين بعض المسؤولين في وزارة الصحة وبعض المقاولين والتجار .
وحدث ولا حرج عن مصانع
الأغذية، فقد وصل الأمر بأحد أصحاب تلك المصانع في يوم من الأيام إلى استيراد الأبقار البريطانية المصابة بمرض جنون البقر بأسعار زهيدة جداً، إن لم يكن مجاناً، ثم ذبحها، وتحويل لحمها إلى معلبات تباع في الأسواق. ووصل الحد بأحدهم إلى شراء أبقار نافقة للتو وخلط لحمها بكميات هائلة من التوابل والبهارات ثم تعليبها وبيعها للناس. قارنوا بين الطريقة التي تتعامل بها أوروبا مع حيواناتها المريضة، والطريقة التي تستغل فيها بعض معاملنا تلك الحيوانات في عمليات غش شيطانية.
لقد شاهدنا كيف أحرق الأوروبيون عشرات الألوف من الأبقار والخنازير والدواجن لمجرد الاشتباه بإصابتها بمرض ما . أما نحن فنحول لحوم الحيوانات النافقة أو على وشك النفوق إلى أطعمة نبيعها للناس وبأسعار مرتفعة .
وكم أتذكر عندما كنت طالباً في بريطانيا حيث كنا نشتري أكياساً من السمك المطبوخ بربع ثمنها الأصلي. هل تعلمون لماذا؟ لأن وزنها يقل بغرام أو غرامين عن الوزن المحدد على الكيس، فتقوم الشركة المصنعة ببيعها بأقل من سعرها بكثير لأنها غير مطابقة للمواصفات. لاحظوا كيف تحترم الشعوب المتحضرة نفسها . هل كان مصنع عربي ليبيع تلك الأكياس بأقل من ثمنها حتى لو كان وزنها أقل من المحدد بمائة غرام؟ بالمشمش طبعاً .
ولا ننس أن بعض مصانع
الألبسة في بعض البلدان العربية تلجأ إلى غش منتوجاتها، وذلك بتغيير اسم البلد الذي تم صنعها فيه من أجل تسويقها وجعل الناس تقبل على شرائها. وطالما رأينا عبارة "صنع في إيطاليا" مكتوبة على أحذية وملابس عربية. لماذا؟ لأن الناس قلما تشتري ملابس وطنية بسبب جودتها الهابطة، وبالتالي تتوجه إلى شراء الملابس المصنوعة في الخارج حسب المواصفات العالمية .
صحيح أن الصين تصنع أحياناً بضائع متدنية الجودة، لكن أسعار تلك البضائع تكون حسب جودتها، وتكون في الغالب موجهة لشرائح فقيرة لا تستطيع أن تدفع أسعاراً عالية. بعبارة أخرى، ليس كل ما هو مصنوع في الصين ذا جودة منخفضة، لا أبداً، فهناك بضائع صينية ذات جودة عظيمة حسب الطلب. أما عندنا فلا يصنعون البضائع لأن الناس ليس لديها القدرة على شراء السلع الغالية، بل إمعاناً في الغش، بدليل أن أسعار البضائع الوطنية المغشوشة أغلى بكثير من أسعار البضائع الصينية متدنية الجودة، مع العلم أن الأخيرة أفضل من بعض البضائع المصنوعة محلياً .
هذا غيض من فيض من ثقافة الغش عندنا. وكما قلت آنفاً،
فالسمكة تفسد عادة من رأسها، فإذا كان الحاكم عندنا يصل إلى الحكم بالغش والتزوير والانتخابات المفبركة من رأسها حتى أخمص قدميها، فلا عجب أبداً أن يكون الغش ديدن الجميع.
أعطني نظام حكم صالحاً غير مغشوش، أعطك صناعات وطنية جيدة، فالعلاقة دائماً عضوية بين طبيعة نظام الحكم وتصرفات المجتمع من تحته. في الغرب تزوير نتائج الانتخابات جريمة وخيانة عظمى، وبالتالي أي تزوير أو غش في مناحي الحياة الأخرى ممنوع منعاً باتاً، لهذا كل شيء يسير هناك بدقة ساعة روليكس. ألا يقولون: الثلم الأعوج من الثور الكبير؟ ألا يقولون : " إن الناس على دين ملوكها " .
وبما أن دين زعمائنا هو الغش والنصب والاحتيال على شعوبهم، فلا عجب أبداً أن يغش الناس بعضهم البعض في كل شيئ .
أليس حرياًّ بنا نحن العرب أن نغيّر القول العظيم : " من غشّنا فليس منا " ، إلى " من لم يغشنا فليس منا " ، أو إلى " من غشنا منا وستين ألف منا " ؟ .