من أعظم الأمور التي قد يقوم بها الإنسان وأشرفها هو العمل، فالعمل هو ما يحدِّد شخصية الإنسان ويجعل له قبولاً ومكانة في المجتمع. والعمل هو ما يجعل الإنسان مترفّعاً عن السّؤال، فيكسب بالعمل ما يُغنيه ويكفيه، ويكون بين قومه محموداً. وعلى النقيض من ذلك، من يقعد في بيته وينتظر أن يعطيه هذا أو يتصدَّق عليه ذاك، فهو ليس ذو مكانة ولا يُسمعُ له ولا تُطلب مشورته، فليس له مكانة بين الناس عامة؛ ولا بين اهله وعشيرته خاصة.
ونظراً لما لموضوع العمل من أهميّة، فقد عَمِل كل أنبياء الله في مِهنٍ مختلفة قبل البعثة وبعدها، وذلك كي يكونوا مثالاً يُحتذى لمن يتبعهم من بعدهم. وجميع الأنبياء بلا استثناء قد عملوا رعاة للغنم كما جاء في الحديث (ما بَعَث الله نبيًّا إلا رعَى الغَنَم)، وهذا العمل قد أفاد أنبياء الله في تعلم الصبر والجَلَد وقوة الإحتمال والعطف على الضعيف والرأفة به ويتعلم القيادة. ولم يخجل أد أنبياء الله من ذلك، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق الذِّكر لهو دلالة على الفخر بالعمل، والعمل مهما كان فهو ليس عيباً.
نبي الله نوح عليه السلام كغيره من الأنبياء، رعى الغنم ولكنّها ليست مهنته الأساسية، فقد كان عليه السلام نجَّاراً، وقد صنع نبي الله نوح عليه السلام أكبر سفينة في ذلك العصر بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). فقد صدر القرار من ربِّ العزة والجلالة على قوم نوح بأنهم مغرقون؛ أي سيتم إغراقهم، وقد بدأ نوح عليه السلام ببناء السفينة وكانت على اليابسة، حتى أن قومه كانوا يمرون من جواره ويسخرون منه لأنه يبني سفينة في مكانٍ ليس به ماء.
وعندما حان الوقت، حمل نوح عليه السلام المؤمنين معه في السفينة؛ ولكن ابنه لم يركب معه رغم محاولات أبيه، ولكن جاءه الخبر من الله سبحانه وتعالى (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح). وركب معه في السفينة أيضاً من كل نوع من المخلوقات زوجين اثنين؛ وذلك لتستمر الحياة على الأرض؛ ولينجيه الله ومن معه كما في قوله تعالى (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن في ذلك لآية وما أكثرهم مؤمنين). وبعد انقضاء الأمر؛ أمر الله سبحانه وتعالى الأرض أن تسحب ماءها والسماء أن تتوقف واستقرت السفينة على جبلٍ يُدعى الجودي {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وبذلك يعتبر نبي الله نوح عليه السلام هو أبو البشر الثاني، حيث أن كل من على الأرض قد فنا إلا من كان معه في السفينة، فمنه بدأت سلالة البشر مرة أخرى؛ كما بدأت أول مرة من عند أبونا آدم عليه السّلام.