أبو محجن رجلٌ شاعرٌ شريفٌ"
رغم إسلامه فإنَّه بادئ بدء لم يتخلَّ عن الخمرة حتَّى جلده عليها عمر بن الخطاب ـ رضي اللهُ عنه ـ وحبسه بسببها
وأما توبته فكانت في موقعة القادسية، فقد لحق بسعد بن أبي وقاص وهو يُحارب الفرس، فكتب إليه عمر أن يحبسه، فحبسه سعد عنده.
وذلك أنَّ أبا محجنٍ كانَ يؤتَى بهِ شارباً إلَى سعدٍ فيتهدده، فيقول له: لست تاركها إلا لله عز وجل فأما لقولك فلا قالوا.
فأُتِي به يوم القادسية وقد شرب الخمرَ، فأمر به إلى القيدِ، وكانت بسعد جراحةٌ فلم يَخرج يومئذٍ إلى الناس، فاستعمل على الخيل خالدَ بن عرفطة، فلمَّا التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنًا أن تُرديَ الخيل بالقَـنا *** وأترك مشدودًا علىَّ وثـاقياإذا قمت عن نار الحديد وغُلِّقَـت *** مصاريع دوني قد تصمُّ المنادياوقد كنت ذا مال كثيْرٍ وأخــوة *** فقد تركوني واحدًا لا أخَ ليافلله عهد لا أخـيْسُ بِـعَـهْـده *** لأن فرجت ألا أزورَ الحوانيافجاءت سلمى امرأةُ سعد وسمعته وطلبَ منها أن تخلِيَ سبيله فرفضتْ، ثّمَّ سمعت أبياته السابقة فقالت له سلمى: إنِّي استخرْتُ اللهَ ورضيْتُ بعهدكَ.
فأطلقته، ولمَّا طلبَ منها فرس سعدٍ واسمها البلقاءُ رفضتْ،فركبها أبو محجن وخرجَ يقاتلُ، ثُمَّ حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه وسلاحه بين الصفيْن، ثم رجع من خلفِ المسلميْن إلى القلبِ،وكان يقصفُ الناس ليلتئذٍ قصفاً منكراً، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالأمس، وجعل سعدٌ يقول وهو مشرفٌ ينظر إليه: الطعنُ طعنُ أبي محجن والضبْرُ ضبْرُ البلقاء ولولا محبسُ أبي محجنٍ لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء.
فلم يزل يقاتل أبو محجنٍ يقاتلُ حتَّى انتصف الليل فتحاجز أهل العسكرين، وأقبل أبو محجن حتَّى دخل القصر ووضع عن نفسه ودابته وأعاد رجليه في القيد وأنشأ يقول:
لقد علمتْ ثقيفٌ غيْـر فخرٍ * بأنا نحن أكرمهم سيــوفا
وأكثرهم دروعاً سابغـاتٍ * وأصبَرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنَّا رفْـدُهم في كلِّ يَـومٍ * فإنْ جحدوا فسلْ بِهم عريفا
وليلة قادسٍ لم يشـعروا بِي * ولَمْ أكرهِ بِمخرجي الزحوفا
فإنْ أُحبَسْ فقد عرفوا بلائي * وإنْ أُطلَـقْ أجرعهم حُتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محجن في أيِّ شيءٍ حبسك هذا الرجلُ؟ تريد زوجها سعداً.
فقال: أما واللهِ ما حبسنِي بِحرامٍ أكلته ولا شربته، ولكنِّي كنت صاحبَ شرابٍ في الجاهلية، وأنا امرؤٌ شاعرٌ يدبُّ الشعر على لسانِي فينفثه أحيانا فحبسني لأني قلت:
إذا متُّ فادفنِّي إلى أصل كرمةٍ * تروِّي عظامي بعد موتِي عروقُها
ولا تدفننِّي فِي الفَـلاة فإننِّي * أخَـافُ إذا ما متُّ ألاَّ أذوقُهاليُروى بِخمر الحصِّ لحمِي فإنَّنِي * أسيْرٌ لَهَا منْ بعدِ ما قدْ أسوقُهافأخبَرت سعداً بِخبَره فقال سعدٌ: أما واللهِ لا أضرب اليومَ رجلا أبلى الله المسلميْن على يده ما أبلاهم. فخلَّى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربُها إذ كان الحدُّ يُقام عليَّ وأطهرُ منها فأما إذْ بَهرجتنِي فلا واللهِ لا أشربُها أبداً.